ماكرون.. تشومسكي.. كيسنجر: كيف ننقذ “القيصر”؟

مدة القراءة 5 د

الأرجح أنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هو أكثر الممتعضين من تكرار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حرصه على حلّ في أوكرانيا لا يمثّل إذلالاً لروسيا. فالمراقب لنزوع بوتين خلال عقود حكمه منذ عام 1991 نحو الظهور بمظهر القويّ بين نظرائه الدوليين، بمن فيهم ماكرون نفسه، يسهل عليه تخيّل غضب سيّد الكرملين من أعراض الشفقة والحنان التي يبديها له سيّد الإليزيه.

وعلى الرغم من حصافة الرئيس الفرنسي ودرايته بالعلاقات الدولية (حتى لا نقول الاجتماعية أيضاً)، إلا أنّ موقفه عصيّ على التفسير. يحمي الرجل، لا شكّ، موقع فرنسا، البلد الوسيط في الحرب بين روسيا وأوكرانيا، ويراعي دوره، ولا سيّما أنّه الرئيس الحالي للاتحاد الأوروبي، في صيانة خطّ التواصل مع بوتين والتقاط اللحظة التي يكون فيها الحلّ ناضجاً. ويدعم ماكرون بذلك أيضاً سياسته، التي يتّفق بها مع المستشار الألماني أولاف شولتز، لإيجاد مخرج دبلوماسي للحرب وإنهاء الصراع.

على أنّ في حرص ماكرون على عدم إذلال روسيا، بما يعني عدم إذلال بوتين، على الرغم من إدانة فرنسا لحرب روسيا ووقوفها إلى جانب أوكرانيا، مفارقة عجيبة في مداراة الجلّاد، على الأقلّ وفق وصف ماكرون نفسه لـ “خطيئة” بوتين في أوكرانيا. فلن يذلّ بوتين إلا الهزيمة، وتغييب الذلّة يعني توفير النصر له.

أيّاً كان التعبير الذي استخدمه الرئيس الفرنسي لإنهاء الحرب من خلال ضريبة عدم إذلال روسيا، فإنّ بوتين يرى في الأمر تراكماً تسرّب من مواقف من داخل المجتمع الغربي

الأهمّ أنّ انخراط الرئيس الفرنسي في ورش الحلّ في أوكرانيا على قاعدة عدم إذلال روسيا قد يُفقد فرنسا أخلاقية دورها بالنسبة إلى الأوكرانيين، ويعظّم، في الوقت عينه، شكوك روسيا بسبب “وقاحة” ماكرون في التطوّع الخيري لإنقاذ بوتين من فظاعة المذلّة.

والحال أنّ ظاهر تصريحات ماكرون لا يعبّر عن احترام للزعيم الروسي وتقدير لمكانته، بل يندرج داخل دينامية الغرب، بصقوره وحمائمه، في الذهاب إلى قطيعة مع بوتين وروسيا. وسواء تعلّق الأمر بحُزَم العقوبات المتصاعدة الفتّاكة التي يطلقها الاتحاد الأوروبي، أو بحُزَم المليارات من الدولارات التي يرصدها الكونغرس الأميركي لمساعدة أوكرانيا، فإنّ السياق ذاهب إلى إلحاق هزيمة أو أن “نرى روسيا ضعيفة” وفق تصريحات وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن.

لا تكمن جسامة السعي إلى عدم إذلال روسيا في مضمون هذا الهدف، بل بالشكل العلني الذي يجاهر به ماكرون عنواناً لمهمّته وواجهةً لسياسة بلاده حيال الحرب في أوكرانيا ومبرّراً لتلك المرونة التي يتّسم بها الموقف الفرنسي مقارنه بذلك الأميركي أو البولندي أو البريطاني مثلاً.

إذلال أوروبا؟ 

إذا ما رأى وزير خارجية أوكرانيا، ديميترو كوليبا، أنّ “الدعوات إلى تجنّب إذلال روسيا لن تؤدّي إلا إلى إذلال فرنسا وكلّ الدول الأخرى التي قد تطالب بذلك”، فإنّ كييف لن ترى في مقاربات باريس السلمويّة إلا تمريناً هدفه الأوّل والأخير إرضاء روسيا. بالمقابل فإنّ روسيا أيضاً سترى في أيّ “حلّ فرنسي” “أفضالاً” مزعومة تطيح بأيّ نصر يريد بوتين أن يُقِرّ به العالم له ولبلاده.

تشبه دينامية عدم إذلال الخصم دينامية عدم إغضابه. وفي الحالتين ينطوي الأمر على مسلّمة الخروج من المواجهة والصدام وتلافي الصدام الكبير. لقد اتّفق أنّ درس التاريخ، الذي يروّج هذه الأيام لـ”اتفاق ميونيخ” مع أدولف هتلر عام 1938، هو أمثولة فاشلة في الحرص على مداراة الخطر واستيعابه، وأنّ بوتين نفسه الدارس جيّداً للتاريخ يعشق “الميونيخيّة”، ويمنّي النفس من خلال الصبر وشراء الوقت بالوصول مع خصومه إليها.

وفيما يلهث ماكرون لعدم إذلال روسيا، فإنّ بوتين، الذي يتزعّم بلاده منذ عقود من دون منافسة ومداورة وتناوب، يعوِّل، مصيباً، على سرعة تغيّر الأحوال لدى المجتمع الغربي مقابل بطء وربّما انعدام أيّ تغيّر داخل بلاده في الموقف من الحرب.

راقب الزعيم الروسي خلال فترة حكمه سقوط رؤوس وقيام رؤوس على قمم السلطة في بلاد الآخرين، بما في ذلك في أوكرانيا، فيما لا تبدّل في حكم موسكو وشخصيّة حاكمها. وإذا ما كانت قوّة الرأي العام منعدمة في روسيا برعاية سلطة بوتين، فإنّ استحقاقات الاقتراع الديمقراطي لتبديل واجهات السلطة لدى الدول الغربية، إضافة إلى أزمات الطاقة والغذاء والتضخّم وغير ذلك، من شأنها، ولو بعد حين كما يتمنّى الرئيس الروسي، أن تُحدث فارقاً قد يقلب الرأي العام ويُحدث تصدّعاً وشقاقاً داخل جدران الكتلة المقابلة.

في النهاية، وأيّاً كان التعبير الذي استخدمه الرئيس الفرنسي لإنهاء الحرب من خلال ضريبة عدم إذلال روسيا، فإنّ بوتين يرى في الأمر تراكماً تسرّب من مواقف من داخل المجتمع الغربي.

سبق للدبلوماسي الأميركي المتقاعد، تشاس فريمان، ولدواعٍ لها علاقة بحسابات مع الإدارة الحالية في البيت الأبيض، أن رأى أنّ بلاده ستقاتل روسيا “حتى آخر مواطن أوكراني”. أنِسَ المفكّر الأميركي نعوم تشومسكي بهذا التعبير فاستعاره وأكّده ودعا إلى تسوية دبلوماسية متفاوَض عليها “ستكون قبيحة” لكنّها توفّر “خطة هروب” من نوع ما لبوتين.

إقرأ أيضاً: “أنت لا تعلم حجم ما لا تعلم” (كيسنجر)

يلتقي هنري كيسنجر في دعوته أمام منتدى دافوس مع دعوة تشومسكي إلى تنازل أوكرانيا عن بعض أراضيها. كان ذلك أيضاً حلّاً أنهى “حرب الشتاء” التي شنّها الاتحاد السوفياتي ضدّ فنلندا عام 1939. وسبق لكييف في مفاوضاتها مع موسكو في إسطنبول أواخر آذار أن أبدت أعراضاً لتنازلات محتملة من هذا النوع. غير أنّ المتحدّث باسم الكرملين قال غداة تلك المفاوضات إنّه لم يجد في المفاوضات جديداً واعداً، ذلك أنّ طموحات بوتين تتجاوز وصايا تشومسكي وكيسنجر وأعمال ماكرون الخيرية.

 

* كاتب لبنانيّ مقيم في لندن

مواضيع ذات صلة

رُمّانة ماجدة الرومي ليست هي السبب!

المطربة والفنانة اللبنانية الشهيرة ماجدة الرومي، كانت نجمة الأيام القليلة الفارطة، ليس بسبب إبداعها وجمال صوتها “الكريستالي”، ولا بروائع أعمالها الغنائية، وهي تستحق هذا كله،…

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…