دخلت الأزمة الماليّة مرحلة التصفيات النهائية، وبات الوقت حاسماً لدخول أحد مسارين: إمّا أن تُعالج بـ”الهبوط المنظّم”، من خلال خطة إصلاح وتقشّف يحكمها الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، وإمّا أن يُترك لـ”الفوضى الخلّاقة” تصفية الخسائر على حساب الحلقة الأضعف في النظام، ليظهر بعد ذلك جيل جديد من أثرياء الأزمة.
نقطة ضعف مسار “الهبوط المنظّم” أنّه لا يمكن إنتاجه إلا بقرار وفعل دؤوب من القوى القادرة على إقرار التشريعات في مجلس النواب. ونقطة قوّته أنّه يبقى محبَّذاً من قوى السلطة، لأنّه السبيل لإعادة تأهيل البلاد للعودة إلى أسواق رأس المال وتمويل الدولة والاقتصاد. لكنّ شرطه أن تراعي خطة التعافي مصالح تلك القوى. المعادلة المطلوبة هنا أن تتوافر صيغة لحلّ الأزمة يقبل بها صندوق النقد من دون أن تمسّ بمصالح القادرين الفاعلين داخل النظام، على اختلاف مشاربهم. فإذا لم يتوافر الاتفاق على هذه الصيغة لا يبقى إلا الخيار الثاني، وهو خيار لن يظهر وكأنّه بفعل فاعل، بل سيبدو وكأنّه حال من المراوحة والعجز عن الاتفاق على خطة في الحكومة الجديدة أو في مجلس النواب. إلا أنّ المراوحة لا تأتي عفو الخاطر، فمَن يرتكبها يعرف نتيجتها سلفاً، ويعرف ما سينتج عن الفوضى بقوّة الذراع.
المطروح في خطة حكومة ميقاتي شرعنة الربح للرابحين وشرعنة الخسارة للخاسرين
مسار الفوضى الخلّاقة ماضٍ على أيّ حالٍ، منذ 17 تشرين الأول 2019، من دون انتظار مصير محاولات إنتاج صيغة الهبوط المنظّم. حتى إنّ واقع ما بعد تصفية الخسائر بدأ يتشكّل، بتحييد ثروة تقارب 40 مليار دولار أو انتقالها من يد إلى يد، وهي تتوزّع على ثلاث فئات رئيسية:
1- أصحاب القروض كسبوا بالفعل ثروات مجّانيّة تُقدَّر بمليارات الدولارات، على شكل شقق وسياراتٍ وأصول. إذ انخفض حجم تسليفات البنوك للقطاع الخاص من 48 مليار دولار في أيلول 2019 إلى نحو 23 مليار دولار حالياً، ما يعني أنّ 25 مليار دولار من القروض تمّت تصفيتها بالشيء الزهيد من قيمتها، إمّا من خلال تجارة الشيكات، وإمّا من خلال السداد بالليرة على سعر الصرف الرسمي.
2- أصحاب النفوذ هرّبوا تسعة مليارات دولار إلى الخارج بتمويل من مصرف لبنان، أي على حساب المودعين الآخرين، مستفيدين من عدم وجود قانون “كابيتال كونترول”. يشمل هؤلاء النافذين من أصحاب رؤوس الأموال والنافذين في البنوك، من ملّاك وموظّفين وعملاء محظيّين.
3- “حزب الله” أخرج أموال مؤسّساته ومحازبيه باكراً منذ أن اشتدّ طوق العقوبات في 2015، وأغلق عليها خزائن جمعيّة القرض الحسن. وقد صرّح الأمين العامّ للحزب السيد حسن نصر الله بشيء من هذا، حين كشف أنّ الإيداعات تدفّقت إلى الجمعية منذ ذلك التاريخ. ومع أنّ بنك “حزب الله” لا يكشف عن حجم الودائع لديها، إلا أنّ الأرقام المعلنة للقروض في السنوات الماضية تسمح بالاستنتاج أنّ الودائع لديها تراوح بين ثلاثة وخمسة مليارات دولار، وفق تقديرات متحفّظة.
الخسارة التي لا تُعَوّض
هذه المليارات المحيَّدة سترسم خريطة الثروة والنظام المالي بعد أن تُصفّى الخسائر، وسيكون “الكاش” بشكل خاص ذا قوة مضروبة بضعفين أو بثلاثة أضعاف في ظلّ الأزمة وانهيار أسعار الأصول.
في المقابل، خسر المودعون بالفعل الكثير من أموالهم، سواء من خلال سوق الشيكات، أو من خلال “الهيركت” و”الليلرة” على أسعار صرف متعدّدة حدّدتها تعاميم مصرف لبنان. يمكن تقدير الخسارة المحقّقة بالفعل بما لا يقلّ عن عشرين مليار دولار حتى اليوم، استناداً إلى انخفاض حجم الودائع الدولارية بنحو أربعين مليار دولار منذ بداية الأزمة (لا يُعرف حجم حسابات الطازجة منها)، هذا عدا الهيركت أو الشطب الذي سيلحق بالأموال العالقة في البنوك، والذي سيكون بعشرات مليارات الدولارات.
هل يمكن إجبار الرابحين من الأزمة على الدخول في حلٍّ يعدّل الموازين بينهم وبين المودعين؟
تتلاشى حظوظ الهبوط المنظّم لا لشيء إلا نتيجةً لميزان القوى في النظام المالي والسياسي القائم
المطروح في خطة حكومة ميقاتي شرعنة الربح للرابحين وشرعنة الخسارة للخاسرين. فالخطة تقضي بشطب الجزء الأكبر من التزامات مصرف لبنان اتّجاه البنوك، وهو ما يقضي على أيّ أمل بالسداد للمودعين. والحجّة في ذلك عدم تحميل الدولة أعباء إعادة رسملة مصرف لبنان ذي الميزانية المنكشفة على ستّين مليار دولار من الخسائر. والمعروف أنّه إذا لم تتحمّل الدولة هذا العبء فسيتحمّله المودعون، وليس أصحاب البنوك، لأنّ حقوق ملكيّة هؤلاء لم تعد تساوي شيئاً، (كانت تساوي 21 مليار دولار قبل الأزمة، وباتت اليوم في حدود 16.2 مليار دولار في دفاتر البنوك المغشوشة والمخالفة لمعايير المحاسبة الدولية ومعايير بازل -3، لكنّها في الواقع بالسالب).
المعضلة أنّ الخطة تتسلّح بمعايير صمّاء لدى صندوق النقد الدولي، تنادي بعدم تحميل الأجيال المقبلة وزر الخطايا المرتكبة في الماضي والحاضر، من دون أن تقيم اعتباراً لِما جرى محلّيّاً من تحوّل للثروة بفعل الأزمة.
لماذا سكت الحزب؟
لا يمكن قراءة السجالات حول خيارات الخروج من الأزمة خارج سياق ميزان القوى السياسي-الاقتصادي في البلاد. هل كان “حزب الله” ليسكت كلّ هذا الوقت لولا أنّ سلاحه الرأسمالي عالق داخل البنوك المفلسة؟ وهل كان النافذون في النظام ليصمتوا عن حال المراوحة لولا أنّهم أخرجوا أموالهم في السنة الأولى من الأزمة؟ هل كانوا سيسكتون عن تطيير قانون الكابيتال كونترول مراراً وتكراراً؟ وعن الصرف بلا توقّف من احتياطيات مصرف لبنان؟ وعن عدم الجدّيّة في التفاوض مع صندوق النقد الدولي؟
تتلاشى حظوظ الهبوط المنظّم لا لشيء إلا نتيجةً لميزان القوى في النظام المالي والسياسي القائم. لم يبقَ إلا فرصة أخيرة هي خطة التعافي التي أقرّتها حكومة نجيب ميقاتي في آخر جلساتها، وهي جسيمة الثغرات والخطايا. وإذا سقطت فلن تكون هناك فرصة أخرى، لأنّ الوقت لم يعد يسمح بإعداد خطة جديدة بعد تشكيل الحكومة المقبلة. ومع ذلك، فإنّ من غير الواضح إن كان بإمكان مجلس النواب الجديد مناقشة خطة حكومة ميقاتي على وجه السرعة، في ظلّ تشتّت القوى والتنافر الكبير بين مكوّناته، حتى داخل الحلف “الاستراتيجي” الواحد.
مسار اللافعل سينتهي إلى تصفية طبيعية للأزمة على حساب المودعين، لأنّهم لم يعودوا قوّة مؤثّرة بعدما هرّب النافذون أموالهم. وربّما يكون مصيرهم في “السيستم” اللبناني كمصير المالكين القدامى الذين حاف عليهم القانون، باسم حقّ السكن لمستأجري البيوت، وحقّ الكسب لمستأجري المحلّات التجارية، وحقّ التوريث لِمَن قضى نحبه من المستأجرين على مدى أربعة عقود!
إقرأ أيضاً: خطّة الحكومة تضحّي بالمودعين: العوض بـ”سلامة”
يرفع كثيرون اليوم شعارات عدم تأسيس صندوق سيادي لسداد ديون الدولة، وعدم بيع الأملاك العامّة، وعدم تحميل المواطنين ضرائب إضافية، وكلّ هذه الشعارات تساوي شعاراً واحداً: فليتحمّل المودعون الثمن وحدهم، وليذهب الآخرون بما كسبوا.