لا يبشّر استيلاء “الحرس الثوري” الإيراني على ناقلتَيْ نفط يونانيّتين في الخليج بالخير. إلى الآن، فشلت “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران، وهي جمهوريّة زاد عمرها على 43 عاماً، في أن تكون جزءاً من أيّ حلّ في المنطقة.
يبدو النظام الإيراني مصرّاً على أن يكون طرفاً في كلّ مشكلة أو أزمة إقليمية. نجح في ذلك نجاحاً منقطع النظير. بات طرفاً يساعد في تأجيج كلّ مشكلة أو أزمة في ظلّ شعارات طنّانة يغطّي بها تدخّلاته في شؤون الدول الأخرى، خصوصاً الدول العربيّة.
ما هدف النظام الإيراني من ذلك؟
لا جواب منطقيّاً عن هذا السؤال باستثناء أنّ الفكرة التي أُسّس في ظلّها النظام، فكرة “تصدير الثورة”، ما زالت الفكرة التي لا يحيد عنها. إنّها الفكرة التي تتحكّم به نظراً إلى أنّها تشكّل خطّ الدفاع الأوّل عنه. لعلّ فكرة “تصدير الثورة” هي التي دفعته إلى خوض أولى حروبه، وهي الحرب مع العراق، بعد سنة وبضعة أشهر من سقوط الشاه. كانت تلك الحرب، التي استمرّت ثماني سنوات، حرباً عبثيّة سقط الرئيس العراقي الراحل صدّام حسين في فخّها في ضوء عقله السياسي ذي الطابع التبسيطي والمحدود، وهو العقل الذي جاء به من الريف إلى مدينة حضاريّة ذات تاريخ عريق اسمها بغداد… ولم يفارقه يوماً.
يصعب في أيّامنا هذه تجاهل الدور التدميري الذي لعبته إيران في العراق أو سوريا أو لبنان… أو اليمن. لكنّ من السهل، في المقابل، تصوّر ما آلت إليه البلدان الأربعة التي فقدت مقوّمات وجودها
حقّق صدّام حسين شبه انتصار على إيران في العام 1988، لكنّه ما لبث أن هزم نفسه عندما اجتاح الكويت صيف العام 1990. كان غير مدرك للنتائج التي ستترتّب على هذه المغامرة المجنونة التي ما لبث كلّ العراق أن دفع ثمنها في العام 2003 عندما قرّرت إدارة بوش الابن قلب النظام وتسليم البلد إلى إيران. تحوّلت إيران إلى الرابح الأوّل والوحيد من خطوة شنّ الحرب الأميركيّة على العراق.
يصعب في أيّامنا هذه تجاهل الدور التدميري الذي لعبته إيران في العراق أو سوريا أو لبنان… أو اليمن. لكنّ من السهل، في المقابل، تصوّر ما آلت إليه البلدان الأربعة التي فقدت مقوّمات وجودها. قُضي على النسيج الاجتماعي فيها في ضوء التدخّلات الإيرانية التي تولّتها ميليشيات مذهبيّة مرتبطة مباشرة بـ”الحرس الثوري”. تحوّل “الحرس الثوري” مع الوقت إلى الرمز الفعليّ للنظام في إيران وللمشروع التوسّعي الذي ينفّذه النظام.
يبدو واضحاً في الوقت الحاضر أنّ “الجمهوريّة الإسلاميّة” تخوض آخر حروبها، وهي حرب المحافظة على “الحرس الثوري”. تخوض هذه الحرب في ظلّ معطيات دوليّة تبدّلت جذريّاً. يؤكّد ذلك رفض الإدارة الأميركية الحاليّة الرضوخ للشروط الإيرانيّة في ما يتعلّق بالعودة إلى الاتفاق في شأن الملفّ النووي الإيراني الموقّع صيف العام 2015. ليس الوضع الداخلي الأميركي وحده الذي يمنع إدارة جو بايدن من الرضوخ للشروط الإيرانيّة. هناك أيضاً أسباب أخرى غير وجود تكتّل قويّ في الكونغرس، لا يقتصر على الجمهوريّين. يعترض التكتّل داخل الكونغرس على الاستسلام أمام إيران، و”الحرس الثوري” تحديداً. من بين هذه الأسباب الأخرى القائمة أيضاً وجود قوى إقليمية تنظر بحذر إلى أيّ اتفاق أميركي جديد مع إيران يتجاهل صواريخها وطائراتها المسيَّرة وسلوكها خارج حدودها.
إضافة إلى ذلك كلّه، كشفت الحرب الأوكرانيّة عمق العلاقات القائمة بين “الجمهوريّة الإسلاميّة” وروسيا – فلاديمير بوتين. ليست سوريا سوى إحدى “الساحات” التي يظهر فيها هذا التعاون في أبهى مظاهره. بكلام أوضح، لم تستطع “الجمهوريّة الإسلاميّة” استيعاب أنّ العالم تغيّر بعد الحرب الأوكرانيّة، وأنّ جهودها الهادفة إلى استغلال تلك الحرب في خدمة مصالحها لم تنطلِ على أحد، لا على العرب، ودول الخليج تحديداً، ولا على الأميركيين الذين أدركوا أخيراً خطورة رفع “الحرس الثوري” عن لائحة الإرهاب.
يُمكن الحديث للمرّة الأولى أيضاً عن بداية تفاهمات من نوع مختلف في شأن إيران بين إدارة بايدن من جهة، والحكومة الإسرائيلية من جهة أخرى.
نشهد حالياً آخر حروب إيران دفاعاً عن النظام الذي بات نظام “الحرس الثوري”. اللافت أنّ “الجمهوريّة الإسلاميّة” تجد نفسها في طريق مسدود يجعل خيار الحرب وارداً. يؤكّد ذلك تصرّفها في العراق وسوريا ولبنان واليمن حيث لجأت إلى تعطيل الحياة السياسّية كلّيّاً في البلدان الأربعة. نقلت المأزق الإيراني إلى خارج إيران، علماً أنّ النظام يواجه تحدّيات جديدة منذ أشهر عدّة. يكشف حجم هذه التحدّيات وخطورتها أنّها مستمرّة منذ فترة طويلة. ما بدأ بشكوى سكان الأحواز من قطع المياه عنهم وعن مناطقهم الزراعيّة، امتدّ إلى مناطق أخرى بسبب شكوى المواطن الإيراني من رفع الدعم عن موادّ أساسيّة وما تبع ذلك من زيادة الفقراء فقراً.
كذلك نشهد حاليّاً فشلاً للمشروع التوسّعي الإيراني. كما نشهد عناداً لدى النظام على جعل الولايات المتحدة ترضخ له. يتأكّد كلّ يوم أنّ ذلك من رابع المستحيلات على الرغم من كلّ المحاولات التي يبذلها المسؤول الأميركي عن الملفّ الإيراني روب مالي لتجميل صورة “الجمهوريّة الإسلاميّة”.
تكمن المشكلة الحقيقية التي تواجه النظام في أنّه لا يستطيع التراجع والتصالح مع الواقع. هذا يعني قبل أيّ شيء أنّ العقوبات الأميركيّة أدّت مفعولها، كما يعني أنّ “الجمهوريّة الإسلاميّة” لا تمتلك نظاماً قابلاً للحياة، وأنّ فكرة “تصدير الثورة” لا تستند إلى معطيات ذات طابع عملي مرتبطة من قريب أو بعيد بأيّ فكر حضاري أو اقتصادي أو سياسي من أيّ نوع. هل تتصالح “الجمهوريّة” الإسلاميّة مع الواقع وتقتنع بأنّ مشروعها التوسّعي لا يمتلك أفقاً من أيّ نوع، وأنّه لن يكون في استطاعتها الاستمرار فيه؟
إقرأ أيضاً: عن إيران الساعية إلى دور شرطي المنطقة
تبدو إيران أمام خيارين. خيار التراجع والتصالح مع الواقع، وخيار الذهاب إلى مواجهة من منطلق أنّ مثل هذه المواجهة يمكن أن تنقذ “الحرس الثوري” الذي بات الحاكم الفعلي في “الجمهوريّة الإسلاميّة”. هل تختار “الجمهوريّة الإسلاميّة” تفجير المنطقة لإثبات استعدادها لحرب أخيرة تُخرجها من مأزقها الوجودي… لعلّ ذلك ينقذ “الحرس الثوري”؟