بعدما قال، قبل أيّام قليلة، “فشروا أن ينزعوا سلاحنا”، عاد الأمين العامّ لحزب الله حسن نصرالله في أعقاب الانتخابات ليقول: “هناك تحدّيات داهمة كالخبز والكهرباء والدولار، فلنذهب إلى حلّها ولنؤجّل قضيّة سلاح المقاومة لعامين إضافيّين لأنّه ليس مسألة داهمة وقد تعايشتم معه منذ عام 2005”.
نتيجة الانتخابات وخسارة حزب الله الأكثرية كان لهما انعكاس على استكباره المعهود. لكنّ نصرالله أذكى من هذه الانفعالية التي يصوّره بها أخصامه. لا يتراجع بين ليلة وأخرى ويبدي استعداده لـ”بحث سلاحه” الذي أقرّ أيضاً في سابقة أنّه “موضوع خلافيّ بين اللبنانيين”. يعلم تمام العلم كيف يبني على الظرف مقتضاه. وفيما سارع عدد من أخصامه إلى أن يروا في كلامه استسلاماً للأمر الواقع، يرى آخرون أنّها محاولة منه لشراء الوقت. أمّا ما قد فات كثيرين فهو أنّ موقف نصرالله كان موجّهاً بالدرجة الأولى إلى “التغييريّين”، بيضة القبّان في المجلس الجديد.
نجح حزب الله في “انتفاضة تشرين” بتوجيه الغضب الشعبي على “الطبقة الفسّادة”، تارة ضدّ حلفائه وطوراً ضدّ أخصامه، ليبقى إلى حين لدى الرأي العامّ اللبناني بمنأى عن المسؤوليّة التي يتحمّلها من خلال دوره في الأزمات المتراكمة. وعندما بدأ الغضب الشعبي يكبر ككرة ثلج، وجّه عناصره لقمع الاحتجاجات وإحراق الخيام وإحباط الانتفاضة. وبعد عام ونصف عام، انفجر مرفأ بيروت وانقلب السحر على الساحر، وتعمّقت صورة حزب الله باعتباره جزءاً لا يتجزّأ من “الطبقة الفسّادة” لدى الرأي العام اللبناني.
“التغيير” هدف جميع اللبنانيين، لكنّ أداته الأولى تنطلق من استعادة سيادة الدولة. فالسيادة أساس في الاقتصاد كما في الأمن
قبلها كانت قد ارتفعت صورة نصرالله بين الشخصيّات التي قرّر الشعب إعدامها صوريّاً في ساحة الشهداء. دفع هذا المتغيّر بنصرالله إلى إعادة خلط الأوراق ومراجعة حساباته. أمعن جماعة الحزب في سياسة الإفقار، تارة عبر التلاعب بسعر الدولار، وتارة أخرى عبر سياسة تهريب الموادّ المدعومة وحرمان الشعب اللبناني منها. ازداد الفقراء فقراً، ودُفنت الطبقة الوسطى واغتنى المرتشون. حال لبنان هذه انتقمت لها صناديق الاقتراع بعكس كلّ توقّعاته.
المعطى التغييري الجديد
دخل 14 تغييريّاً مجلس النواب. يعمل حزب الله اليوم، وإن لم ينجح في استقطابهم، على منعهم من الوقوف بوجهه. يعمل لدقّ إسفين بينهم وبين “السياديّين”. يروّج أمامهم مباشرة لأهميّة لقمة العيش والتركيز على “الأزمات الداهمة” بدلاً من بحث مسألة السيادة.
وعليه نسأل “التغييريّين”:
– هل تقوم قيامة لدولة قويّة ما دامت الدويلة تنخر أساساتها؟
– هل يتحقّق التغيير بدون قضاء مستقلّ؟
– هل تنتعش الدولة بدون سيادة مفروضة على مساحة الوطن كلّها؟
– هل يمكن للتغيير المنشود من قبلنا نحن اللبنانيين جميعاً أن يتحقّق ما دامت حدودنا غير مضبوطة لمنع تهريب موادّنا الأساسيّة عبر “كوريدورات المقاومة” التي تدخل عبرها الصواريخ ويخرج منها القمح والنفط وغيرهما من الموادّ المدعومة؟ تطول اللائحة..
وعليه لا بدّ من تسطير بعض النقاط:
“التغيير” هدف جميع اللبنانيين، لكنّ أداته الأولى تنطلق من استعادة سيادة الدولة. فالسيادة أساس في الاقتصاد كما في الأمن. بدونها سيبقى التهريب متاحاً، وستظلّ موانئ الدولة تجمع الضرائب “على ناس وناس” من المرفأ إلى المطار وعند الحدود الشرعيّة. فجمع الضرائب لا يمكن أن يكون في منطقة دون أخرى. القضاء لا يمكن أن يظلّ انتقائياً. السلم والحرب لا يمكن أن يبقيا بيد فريق انتماؤه إيرانيّ جهاراً، وإلا فلا استقرار أمنيّاً، وبالتالي لا استثمارات. يجب أن تنحصر السياسة الخارجية بالدولة لا بميليشيا حوّلت لبنان إلى منصّة لمهاجمة العرب والعالم، وحوّلتنا إلى جزيرة متقطّعة الأوصال. فقطاعنا السياحي، مصدر دخلنا الأساسي، سيظلّ في العناية الفائقة ما بقيت الدويلة تسيطر على الدولة. من هنا، فإنّ “سيادة الدولة” ليست شعاراً، بل هي أساس ينطلق منه أيّ تغيير.
إقرأ أيضاً: المعضلة اللبنانيّة: حدث تغيير لكن لم يُحدث “التغيير”!
كلّنا “تغييريون”، لكنّ الوصول إلى التغيير يبقى وهماً إن لم تُستخدم فيه أهمّ أداة، وهي “استعادة السيادة”. فعلى “التغييريين” أن يعلموا أن لا تغيير بدون سيادة، فيما على “السياديين” أن يقتنعوا بدورهم أنّ الشعب توّاق إلى التغيير، وهذه فرصتهم الأولى والأخيرة. فلنبدأ ببناء الدولة، وبعدها ليدخل 128 تغييرياً إلى المجلس فنقول جميعاً يومها “كلّن يعني كلّن”.
*كاتب لبناني مقيم في دبي