“المستقبل” برؤية عونيّة: “سعد راجع”

مدة القراءة 6 د

يبدأ التاريخ لدى بعض المتحمّسين لزعيم تيار المستقبل سعد الحريري من لحظة افتراقه عن الرياض. لم تكن ثمّة مشكلة يواجهها الرجل قبل ذلك، وما من تحدٍّ تواجهه الطائفة سوى هذا!

هناك مَن يصوّر لأهل السُنّة في لبنان بأنّ القضيّة التي عليهم الانشغال بها ليست إلا الانتصار لمظلوميّة الرجل الذي “أُجبر” على الابتعاد، كما يقولون. بطل القضيّة واضح. إنّه زعيم أوحد لا يمكن للطائفة أن تحقّق وجودها في الدولة من دون عينيه. والعدو واضح: السعوديّة وحلفاؤها في لبنان، أيّاً تكن أسماؤهم أو طوائفهم. لا مكان للرماديّة في معركة الوجود هذه. مَن ليس “معنا” فلا مكان له إلا مع “الظلم” و”الغدر” و”عدم الوفاء”.

يمكن لسعد الحريري أن يواجه، وسيجد شارعاً عريضاً معه، لكن فليشتغل في السياسة. فليواجه بشيء غير صناعة العطف

مَن أقحم السعوديّة في هذه القصّة؟

لم تكن السعودية هناك حين قرّر سعد الحريري انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية، وحين مضى في ما سمّاه “ربط النزاع” مع “حزب الله”، وحين توصّل إلى تفاهمات مع الحزب أفضت إلى إفراغ حكم المحكمة الدولية في قضيّة والده الشهيد من المفاعيل السياسية، وحين أعطى لرئيس الجمهورية خمسة أصوات في مجلس الوزراء فيما الدستور يمنعه من التصويت، وحين أعطى العونيّين الثلث المعطِّل في الحكومة، وحين مرّر لجبران باسيل مشاريع بـ 580 مليون دولار في قضاء واحد ليفوز بمقعد نيابي في البترون، (الرقم ذكره باسيل في حملته الانتخابية عام 2018)، بينما لم تحصل طرابلس والمنية والضنّية وعكّار والهرمل وبعلبك والبقاع الغربي وراشيا وحاصبيا والعرقوب مجتمعة على نصف هذا الرقم. لم تكن السعوديّة مسؤولة عن انتظار عكّار خمسة عشر عاماً لتلزيم أول أوتوستراد سريع منذ الاستقلال، قبل أن تواجَه بشرط استقبال مكبّ نفايات الجمهورية!

لم تكن السعودية هناك حين وافق سعد الحريري على قانون الانتخابات بالنسبيّة الممسوخة التي لا مثيل لها في العالم، ولم تكن السعودية مسؤولة عن المشاركة السنّيّة الأضعف بين الطوائف الكبرى في انتخابات 2018، ولا عن سوء إدارة الاستحقاق الانتخابي بما قلّص كتلة المستقبل بمقدار الثلث، وبما أتاح لباسيل أن يخطف مقاعد بأصوات بخسة في صيدا-جزّين وعكّار والكورة وزحلة وبيروت الثانية.

كانت تلك إدارة سعد الحريري لمرحلة امتدّت منذ 2009 على الأقلّ، وخياراته التي قرّرها وحده بلا ضغط ولا مشورة ولا إملاء. وكان بإمكانه أن يمضي في مشواره السياسي لو أنّه على اقتناع بجدواها وعلى اقتدار لإدارتها.

كان بوسعه أن يواجه. كان بإمكانه أن يتوجّه إلى عكّار ليأخذ “السيلفي” بجانب سدّ بناه أو طريق شقّه أو فرع للجامعة اللبنانية. كان بإمكانه أن يجول في المنطقة الاقتصادية الحرّة التي نجح في إنشائها في طرابلس أو في معرض رشيد كرامي. كان بإمكانه أن يزور بر الياس أو القرعون أو المرج أو غزّة ليعلن إنجازاً ما للمزارعين الذين يروون حقولهم من مياه الليطاني المسرطنة. نعم، كان لديه وقت كافٍ ليفعل شيئاً، ولو يسيراً.

كان بإمكانه أن يزور مقرّ جامعة رفيق الحريري في البقاع أو المستوصفات التي تحمل اسم الشهيد في المناطق لو أنّها لم تُغلَق. كان بإمكانه أن يفعل شيئاً لإنقاذ جمعيّة المقاصد أو دعم المؤسّسات الأهليّة في بيروت.

لكنّ أنصار الحريري لا يتحدّثون في السياسة ولا في المشاريع ولا في الإنماء. لا شيء في حملة المقاطعة إلا شخص سعد الحريري بطلّته الأنيقة وعينيه الذابلتين حزناً على والده الشهيد. ثمّة استدرارٌ للعطف تُلصق به لصقاً بعض العناوين السياسية الركيكة والمفتعَلة والخجولة، من مثل الزعم أنّ المشاركة في الانتخابات تعطي الشرعيّة لاستيلاء “حزب الله” على الدولة!

هل ينوي تيار المستقبل حقّاً عدم الاعتراف بالمجلس النيابي المقبل؟! هل يزعم أنّه يفتقر إلى الميثاقية كما فعل “حزب الله” مع حكومة فؤاد السنيورة في 2006؟!

لن يفعلها تيار المستقبل، ليس لأنّها خطوة كبيرة لا يتوافر لها الغطاء محليّاً وخارجيّاً، بل لأنّ معركته في حقيقة الأمر ليست مع “حزب الله”، ولن تكون. ولو أنّه كان جدّيّاً في نزع الشرعيّة عن برلمان 2022 لأعلن المقاطعة رسميّاً على الأقلّ، أو لأحاطها بشيء من التنسيق مع قوى أخرى تناوئ “حزب الله” لتكون أكثر وقعاً، أو لكانت المقاطعة جدّيّة وشاملة، لا تكتيكاً انتقائيّاً يطفو على السطح في مواقع التواصل الاجتماعي وفي الشارع فيما الكوادر ينشطون على الأرض لدعم مرشّحين وإسقاط آخرين.

في الأمر شيءٌ من النزعة إلى “العوننة”. فأنصار ميشال عون أسّسوا حوزتهم السياسية على قضيّة مركزية هي عودته من منفاه. وما تبيّن بعد خمسة عشر عاماً أنّ قضيّتهم لم تكن تحرير لبنان من الوصاية السورية أو من ولاية الفقيه، كما كان قائدهم الملهم يزعم من باريس، بل عودته بأيّ ثمن، ولو من بوّابة صفقة مع دمشق وحارة حريك. خمسة عشر عاماً من الخطابات والتظاهرات و”النضال السياسي” أطفأ العونيون مضمونها السياسي كسيجارة تُرمى على الأرض وتُداس بالحذاء، واختصروا “انتصارهم” النهائي بالشعار الشهير: “عون راجع”.

يُراد لأهل السُنّة أن يطرحوا السياسة جانباً ليرفعوا شعار “سعد راجع”. عند هذا الحدّ يتعطّل أيّ نقاش حول الخيارات المتاحة أمام طائفةٍ تشكّل ثلث البلد. تُحال كلّ المسائل الكبرى إلى خانات ثانوية: سطوة إيران على القرار السياسي، وهيمنة سلاح “حزب الله” على الدولة، ومستقبل النموذج الاقتصادي والماليّ، والعلاقة مع دول الخليج والغرب، ومستقبل اتفاق الطائف، ومحاولات تغيير النظام السياسي، والحضور السنّيّ في الدولة والنظام.

إقرأ أيضاً: لعيون من يقاطع تيار سعد الحريري؟

لم يكن في التراث السياسي السُنّي تيارات سياسية تقوم على صورة قائد أوحد باستثناء رفيق الحريري. استشهد قبله رياض الصلح ورشيد كرامي والمفتي الشيخ حسن خالد، وأُبعد صائب سلام وتقيّ الدين الصلح. حتى رفيق الحريري لم يطرح نفسه زعيماً على الطراز اللبناني من قماشة ميشال عون أو سمير جعجع أو حسن نصرالله. كان يمارس السياسة في الحكم، ويمارسها أكثر في المعارضة.

يمكن لسعد الحريري أن يواجه، وسيجد شارعاً عريضاً معه، لكن فليشتغل في السياسة. فليواجه بشيء غير صناعة العطف.

مواضيع ذات صلة

ياسر عرفات… عبقرية الحضور في الحياة والموت

كأنه لا يزال حيّاً، هو هكذا في حواراتنا التي لا تنقطع حول كل ما يجري في حياتنا، ولا حوار من ملايين الحوارات التي تجري على…

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…

لبنان بين ولاية الفقيه وولاية النّبيه

فضّل “الحزب” وحدة ساحات “ولاية الفقيه”، على وحدانية الشراكة اللبنانية الوطنية. ذهب إلى غزة عبر إسناد متهوّر، فأعلن الكيان الإسرائيلي ضدّه حرباً كاملة الأوصاف. إنّه…