لا للتردّد ولا للمقاطعة

في كلّ انتخابات متردّدون. غالباً ما يشكّلون الكتلة الكبرى. عادةً لا يكونون مقتنعين لا بالمرشّحين ولا بالمشاريع المقدَّمة أو يكونون فاقدين الأمل بالتغيير.

في لبنان، بعد الحرب، اعتدنا أن تكون كتلة المتردّدين كبيرة (أكثر من 50%). الأسباب متعدّدة، ومنها القوانين الانتخابية التي كانت تُسَنّ على قياس أزلام الوصاية السوريّة، وتهديد المرشّحين والناخبين، وتعليب النتائج سلفاً، والشعور بالإحباط السياسي. هنا نميّز بين المتردّدين والمقاطعين. فالمقاطعة هي موقف، ولو أنّه موقف سلبيّ. سنعود له لاحقاً. أمّا التردّد فهو اللاموقف.

على الرغم من صحّة هذه الدوافع، فإنّ التردّد في الاستحقاق الانتخابي المقبل هو استسلام وخيانة لقضية التغيير التي يجب أن تكون قضيّة كلّ مواطن من أجل حاضره ومستقبله ومستقبل أولاده

دلَّ إقدام 245 ألف مغترب فقط على التسجيل في اللوائح الانتخابية، من أصل مئات آلاف المغتربين، على أنّ كتلة المتردّدين بين المغتربين اللبنانيين كبيرة. وأظهر تصويت 60% من الناخبين فقط وجود متردّدين بين المسجّلين. صحيح أنّ بعضهم لم يتمكّن من الإدلاء بصوته إمّا لأنّ اسمه علق في مصيَدة جماعة جبران باسيل في وزارة الخارجية، فأتى في قلم اقتراع يقع على بعد مئات الكيلومترات من مكان سكنه، أو لأنّه لا يملك جواز سفر صالحاً أو تذكرة هويّة للانتخاب، وهذه المعوّقات برزت بشكل واضح في أستراليا. لكنّ هذا لا ينفي وجود متردّدين.

في لبنان، تُظهر استطلاعات الرأي أنّ كتلة المتردّدين ستكون كبيرة، على الرغم من الانهيار الحاصل. لذلك يُكثر زعماء الأحزاب من إطلالاتهم الانتخابيّة في الأسبوع الأخير أملاً بالتأثير عليهم لتغيير موقفهم. لكن لن تؤثّر هذه الإطلالات، بحسب خبراء في الانتخابات، إلّا على عدد ضئيل منهم. لذلك كثّف حزب الله وزميله في الثنائي من تهديداتهما وبلطجتهما على المرشّحين والناخبين في الأيام القليلة الماضية. ونجحا في البقاع في دفع بعض المرشّحين إلى الانسحاب من اللوائح.

يبقى السؤال هو: لماذا لا تزال كتلة المتردّدين كبيرة بعد كلّ الذي حدث ويحدث في البلاد؟

الأسباب عديدة، وأبرزها:

1- عودة الأحزاب التي أوصلتنا إلى “الجحيم” إلى تصدّر المشهد الانتخابي. مرشّحوها يحتلّون الشاشات ومواقع التواصل الاجتماعي، وهو ما يُظهر أنّهم الأوفر حظّاً لربح المعركة.

2- تراجع الحماسة التي كانت في بداية انتفاضة “17 تشرين”، والشرذمة والانقسامات في صفوف قوى التغيير، وعجزها عن تقديم لوائح موحّدة في الدوائر الانتخابيّة الـ 15، وتحالف البعض منها مع أحزاب وشخصيّات كانت في صلب المنظومة الحاكمة.

3- الخوف من عدم استطاعة أيّ أكثريّة في المجلس المُقبل أن تحكم وأن تُنقذ البلاد من الانهيار ما دام حزب الله يحتفظ بسلاحه ويستعمله في الداخل لتعطيل الأكثرية النيابيّة (كما فعل منذ 7 أيار 2008)، ولفرض هيمنته على الدولة ومؤسّساتها، ولحماية المنظومة الفاسدة التي أوصلت البلاد إلى الجحيم، ولمنع سنّ التشريعات والقيام بالإصلاحات التي يشترطها صندوق النقد الدوليّ لمساعدة لبنان للخروج من الانهيار.

على الرغم من صحّة هذه الدوافع، فإنّ التردّد في الاستحقاق الانتخابي المقبل هو استسلام وخيانة لقضية التغيير التي يجب أن تكون قضيّة كلّ مواطن من أجل حاضره ومستقبله ومستقبل أولاده.

في مقابل دوافع التردّد، هناك دوافع أقوى وأهمّ للذهاب يوم 15 أيار إلى صناديق الاقتراع والمشاركة الفاعلة في الانتخابات.

 

ما هي هذه الدوافع؟

1- التصويت هو واجب وطني يفرضه الانتماء إلى الوطن، والحرص على مشاركة كلّ مواطن في الحياة السياسيّة، وفي بعض الدول مثل البرازيل تُفرض غرامة ماليّة على من لا يشارك في الانتخابات من دون عذر.

2- الظرف الاستثنائي الذي نعيشه يحتِّم على كلّ واحد منّا أن يضطلع بمسؤوليّته ويُدلي بصوته. ليست الانتخابات يوم الأحد المقبل خياراً بين موالاة ومعارضة وبين يمين متطرّف ويسار من حزب الخضر، إنّما هي خيار بين أن يبقى لبنان أو يزول، ليس جغرافيّاً، بل من حيث هو كيان ودولة ونظام وحرّيّة وديمقراطية واقتصاد… لذلك لا نغالي إن قلنا إنّ هذه الانتخابات مصيريّة.

3- المعركة الانتخابيّة اليوم ليست معركة أحزاب وتيّارات سياسيّة فقط، إنّما هي معركة كلّ مواطن مُنِيَ بخسارة كبيرة أو صغيرة، بخسارة جنى عمره في المصارف، أو عمله، أو استثماره، أو مصنعه، أو متجره، وكلّ لبناني يعيش قلقاً مصيريّاً على حاضره ومستقبله، وكلّ لبنانيّ تعرّض للذلّ على أبواب المصارف، وفي طوابير البنزين، وفي خسارة هناء عيشه، وفي التدقيق في أسعار الموادّ الغذائية لإطعام عائلته، وفي تدريس أولاده على نور الشمعة، واكتوى بفاتورة المولّد…

إقرأ أيضاً: مقاطعة سنية خارج الزمن

أمّا المقاطعة فهي أسوأ الخيارات. جرّبها المسيحيون في بداية الجمهورية الثانية. كانت خطأ فادحاً. ودفعوا الثمن غالياً. خرجوا من المعادلة ومن الدولة. منذ عودتهم في 2005 يناضلون للعودة إليها ولاستعادة مواقعهم فيها ولا يُفلحون. لذلك لا يزال التوازن الوطنيّ مختلّاً. وهو أحد أسباب عدم الاستقرار السياسيّ في البلاد. مقاطعة الطائفة السنّيّة اليوم، أو قسم منها، سوف تؤدّي إلى الخسارة ذاتها التي مُنِيَ بها المسيحيون وإلى خلل إضافي في التوازن الوطنيّ سيؤسّس لمرحلة جديدة من عدم الاستقرار في البلاد.

في الاستحقاقات المصيريّة لا مكان للتردّد ولا للمقاطعة ولا للورقة البيضاء. “17 تشرين” لم تحقِّق التغيير المنشود. لكنّها أسّست لمسار التغيير. 15 أيّار محطة مفصليّة فيه. إمّا يتقدّم لبنان خطوة إلى الأمام في هذا المسار، أو تُعيد الانتخابات المقبلة إنتاج المنظومة الحاكمة ذاتها، فنكون قد حكمنا على أنفسنا بالبقاء في الجحيم لسنوات. الأمر يتعلّق بكلّ واحد منّا.

* أستاذ في الجامعة اللبنانية

مواضيع ذات صلة

هكذا وصلت إسرائيل إلى “البايجرز” واللاسلكيّ

في 7 أيلول الجاري، كان قائد “المنطقة الوسطى” في الجيش الأميركي الجنرال إريك كوريللا في إسرائيل. في اليوم التالي، تمّت عملية مصياف. أكبر عملية إسرائيلية…

من يملك شجاعة الاعتراف “بالهزيمة” التقنيّة؟

.. علينا جميعاً وفي مقدَّمنا الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله أن نمتلك الشجاعة والجسارة للقول إنّ العدوّ الإسرائيلي هزمنا تقنياً ويتفوّق علينا في…

المرشد في استحضار التّاريخ دون المستقبل

“غد بظهر الغيب واليوم لي     وكم يخيب الظنّ بالمقبل ولست بالغافل حتى أرى         جمال دنياي ولا أجتلي لبست ثوب العيش لم أستشِر    وحرت فيه بين…

لبنان… الرأي قبل شجاعة الشجعان

لم يكد دخان ونار التفجيرات الصغيرة في أجهزة النداء القديمة، المعروفة باسم “بيجر” يهدآن، حتى اندلعت موجة نارية جديدة، مستهدفة هذه المرة أجهزة الجوال، وغيرها…