تتصاعد حملة تيار المستقبل لمقاطعة الانتخابات في الأيام الأخيرة قبل موعد إجرائها. تبدو الحملة منظّمة على وسائل التواصل الاجتماعي وفي الشارع، لكن من دون مطالعة سياسية لمسوّغاتها وأهدافها سوى الكلمة العاطفية الموروثة منذ عهد الرئيس الشهيد رفيق الحريري: “لعيونك”.
يقاطع مناصرو “المستقبل” الانتخابات “لعيون” سعد الحريري، لكن “لعيون” مَن يقاطع سعد الحريري؟
كوادر تيار المستقبل العاملون على الأرض يدرون ماذا يفعلون. هم يدركون أنّ الأصوات التي ستُحجَب بفعل حملة المقاطعة لن يخسرها “حزب الله” والعونيون، بل ستخسرها حتماً القوائم المناوئة لـ”حزب الله” في الساحة السنّيّة، ولا سيّما في الدوائر المختلطة حيث للحزب والعونيين كتل تصويتيّة، لتكون النتيجة العمليّة للمقاطعة زيادة مقاعد المحور الإيراني في المجلس النيابي.
واقع الأمر في الميدان أن تيار المستقبل ليس مقاطعاً للعملية الانتخابية تماماً، بل يستخدم شعار المقاطعة لحجب الأصوات عمن يعتبرهم خصومه في الساحة السنية
7 مقاعد للحزب وعون
الأمثلة العمليّة كثيرة ولا لبس فيها:
– في دائرة بعلبك-الهرمل سيؤدّي حجب الصوت السنّيّ إلى فوز “حزب الله” بالمقعدين السنّيَّين بدلاً من مقعد واحد في انتخابات 2018، وفوز العونيين بالمقعدين المسيحيَّيْن، بينما يمكن للمشاركة السنّيّة بسهولة أن تخطف مقعداً على الأقلّ من إحدى الكتلتين.
– في دائرة زحلة ستضمن المقاطعة السنّيّة نجاح مرشّح “حزب الله” السنّيّ أو مرشّح العونيين الماروني.
– في البقاع الغربي ستؤدّي المقاطعة إلى حصول لائحة الثنائي الشيعي-حسن مراد بالكسر الأعلى على مقعد رابع سيذهب حكماً للعونيين.
– في عكّار ستعطي المقاطعة السنّيّة فرصة للعونيين للحصول على مقعدين بدلاً من مقعد واحد.
– في دائرة الشمال الثالثة سيؤدّي حجب الأصوات السنّيّة في الكورة والبترون وزغرتا إلى فوز العونيين بمقعد ثان، وهذا غير مؤكّد.
– في جزّين-صيدا يمكن لحجب الأصوات المناصرة للمستقبل أن يؤدّي إلى وصول العونيين إلى عتبة الحاصل، على الرغم من بُعدهم عنه كثيراً في الظروف الطبيعية.
– في “بيروت الثانية” ستؤدّي المقاطعة إلى حصول لائحة “حزب الله” على مقعدين إضافيين على الأقلّ، لصالح العونيين.
في المحصّلة، ستُهدي المقاطعة السنّيّة سبعة مقاعد إضافية على الأقلّ لتحالف المحور الإيراني في الدوائر المختلطة، وسيحصل العونيون على معظم هذه المقاعد بأصوات بخسة، تقلّ عن ألفَيْ صوت في بعض الدوائر، أو بفائض من الأصوات المهداة إليهم من “حزب الله”، لتبقيهم حاملي لواء “الكتلة المسيحية الكبرى”، مع كلّ ما لهذا اللقب من مزايا مستجدّة في نظام ما بعد اتفاق الدوحة.
شرعيّة سنّيّة للحزب
من جهة أخرى، سيزعم “حزب الله” لنفسه شرعيّة التمثيل السنّيّ على نحو غير مسبوق، باستحواذه مع حلفائه على عشرة مقاعد سنّيّة من أصل 27، فيما تبقى الكتلة الكبرى من الناخبين السُنّة بلا تمثيل، إمّا بالمقاطعة، وإمّا بتشتّت الأصوات بين قوائم كثيرة لا يصل أيّ منها إلى عتبة الحاصل الانتخابي.
ستكون لهذه المقاعد المهداة إلى المحور الإيراني أهميّة كبيرة في رسم التوازنات في المجلس النيابي المقبل الذي ستقع على عاتقه قرارات كبرى اقتصادية وسياسية، ليس أقلّها انتخاب رئيس الجمهورية المقبل وإقرار التشريعات التي يتطلّبها الاتفاق مع صندوق النقد الدولي.
الأمر في غاية الوضوح ولا يمكن أن يكون خافياً على سعد الحريري أو كوادر تيّاره. ويبقى السؤال: ما مصلحة الحريري في تضخيم كتلتَيْ “حزب الله” والتيار العوني؟
حين يُسأل المستقبليون عن ذلك لا ينكر أحدهم أنّ فوز “حزب الله” بالمقعد السنّيّ في دائرة من الدوائر أفضل من نجاح مرشّح من “قليلي الوفاء” الذين “يخالفون تعليمات الحريري ويُضعفون موقفه”.
ضرب “قليلي الوفاء”؟
واقع الأمر في الميدان أنّ تيار المستقبل ليس مقاطِعاً للعملية الانتخابية تماماً، بل يستخدم شعار المقاطعة لحجب الأصوات عمّن يعتبرهم خصومه في الساحة السنّيّة، فيما ماكيناته تشتغل ليل نهار لدعم مرشّحين آخرين من فوق الطاولة أو من تحتها، بهدف إسقاط “قليلي الوفاء”.
لا تفسير لذلك سوى أنّ الحريري يريد على المستوى المحلّي أن يتحوّل غيابه إلى غياب سنّيّ شامل ومقعد شاغر في الطاولة الميثاقية لا يُملأ إلا بعودته. وتلك مقامرة على المستوى الوطني بقدر ما هي مقامرة على المستوى السنّيّ، لأنّه في واقع الحال لا يُفرِغُ المقعد السنّيّ بل يهديه إلى المحور الإيراني الذي سيزعم لنفسه شرعيّة تمثيل السُنّة بقدرٍ ما، تماماً كما حصل في سوريا والعراق من قبل.
فالمقاطعة، أيّاً يكن الداعي إليها، لا تتحقّق الجدوى منها إلا إذا انخفضت نسبة المشاركة إلى الحدّ الذي ينزع الشرعية عن العملية الانتخابية وما تفرزه من نتائج، فيفقد المجلس المنتخب شرعيّته الميثاقية الدستورية. كان هذا المراد من المقاطعة المسيحية في انتخابات 1992، ولم يتحقّق، لأنّ قوّة الأمر الواقع السورية كانت أمضى.
ليس هذا مضمون المقاطعة المستقبليّة ولا هو طموحها. ليس في مدار طموحها أو إمكاناتها أن تُسقط المجلس المقبل بأغلبيّته التي يتحكّم بها “حزب الله”، وليس “المستقبل” في وارد التنكّر لشرعيّته وستثبت الأسابيع المقبلة هذا الواقع.
المشكلة في حملة المقاطعة أنّها ذات طابع “حرتقجي”، يحشد لها المستقبل في الشارع وفي الفضاء الإلكتروني، وينفض يده منها في الخطاب الرسمي، وهي لذلك تبدو فارغة من أيّ مقولة سياسية. غاية طموحها أن تُسقط خالد قبّاني مثلاً، ولو صبّ انتصارها العظيم في “خُرْج” فيلق القدس.
إقرأ أيضاً: ما هو “موقف” الحريري الذي يُضعفه “الناخبون”؟
ينتهي هذا العبث حين تتخلّى حملة المقاطعة عن طابع “الحرتقة” وتتحوّل إلى مقولة سياسية واضحة يخرج بها تيار المستقبل على رأس السطح.
فليقُل إنّه يدعو إلى المقاطعة، وليقُل على أيّ أساس، وعندها فقط يبدأ النقاش.