دانيال مايكلز Daniel Michaels – The Wall Street Journal
كلّما أوقع الملازم في الحرس الوطني الأوكراني أندريه كوليش Andriy Kulish القوات الروسية في كمين، فإنّه يشكر الجيش الكندي على ذلك. لقد قام الكنديون بتدريب لواء الاستجابة السريعة Rapid Response Brigade الصيف الماضي على حرب المدن، والتكتيكات الميدانية، والعلاج الطبي في ساحة المعركة. كانت التدريبات العسكرية في غرب أوكرانيا جزءاً من جهد لم يُعلن عنه إلا قليلاً في السنوات الأخيرة، قامت به دول حلف الناتو، بمشاركة مع قوات من كندا، والمملكة المتحدة، ورومانيا، والحرس الوطني الأميركي في كاليفورنيا. وهذه التدريبات أحدثت تغييرات في صفوف الجيش الأوكراني بكافّة مراتبه، من جنود مشاة إلى وزارة الدفاع وصولاً إلى المشرفين على مجال الدفاع في البرلمان.
يقول الأوكرانيون ومستشاروهم الغربيون إنّ هذا الجهد هو أحد الأسباب الرئيسية التي جعلت القوة القتالية الأوكرانية الذكية قادرة على مفاجأة العالم بصدّ جيش غازٍ أكبر بكثير وأفضل تجهيزاً من خلال الدورات والتدريبات التي شارك فيها ما لا يقلّ عن عشرة آلاف جندي سنويّاً لأكثر من ثماني سنوات. فساعدت دول الناتو هذا البلد المنقسم على تحويل هيكلية جيشه من قيادة عسكرية جامدة على النمط السوفياتي إلى قيادة مرنة وفق المعايير الغربية بحيث يتدرّب الجنود على التفكير واتّخاذ القرارات أثناء القتال.
في كييف، عمل المسؤولون الحكوميون مع مستشارين من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة ودول أخرى في الناتو لإحداث تغييرات أعمق
المساعدة الأطلسية لأوكرانيا، على الرغم من أنّها لم تكن سرّيّة أبداً، إلا أنّها بقيت على مستوى منخفض إعلامياً لتجنّب إثارة غضب روسيا. وإلى ذلك، كانت مصدراً قيِّماً للمعلومات الاستخباراتية للولايات المتحدة وحلفائها. فأوكرانيا تخوض حرباً ضارية مع الانفصاليين المدعومين من روسيا في أجزاء من شرقها منذ سنوات، ممّا يعني أنّ كييف تضمّ في جيشها أكثر جنود أوروبا صلابة. ولهذا، فإنّ خبرتهم في الخطوط الأمامية هي ما جذب اهتمام الناتو لتدريبهم، ووفّرت لقادة الحلف فرصة لمعرفة ما سيكون عليه القتال ضدّ روسيا، كما يقول الضبّاط الغربيون المشاركون في تلك البرامج التدريبية.
ومع اقتراب موعد غزو الجيش الروسي لأوكرانيا في 24 شباط الماضي، أصبح تدريب القوات الأوكرانية مكثّفاً لدرجة أنّه على الرغم من مشاركة ما لا يقلّ عن ثماني دول من الناتو في هذا الجهد، إلا أنّ كثيراً من التدريب العملي كان أضحى فعلاً على يد مدرّبين أوكرانيين. بالنسبة لقادة الناتو، كانت تلك علامة على أنّ أوكرانيا قد استوعبت الدرس.
تغييرات منهجيّة
عمل الناتو في أوكرانيا هو أكثر نجاحاً من الجهود الغربية المماثلة في العراق وأفغانستان. يعزو المستشارون الغربيون ذلك إلى المجتمع الأوكراني المتماسك نسبيّاً، وإلى الحكومة المركزية المعترف بها، وما تزال تمثّل دولة موحّدة، وهي مدعومة من الجسم البيروقراطي، على الرغم من أنّه غالباً ما يكون غير فعّال ومبتلى بالفساد. ولعلّ الأهمّ من ذلك، أنّه لأوكرانيا عدوّ أجنبي واضح، بعد استيلاء روسيا على شبه جزيرة القرم عام 2014، ودعمها العسكري للتمرّد في شرق البلاد.
وحدات المناوشة الأوكرانية هي رأس الحربة لمؤسسة عسكرية أُعيد بناؤها بشكل كامل. جلب مستشارو الناتو معهم مفاهيم جديدة إلى الجيش الأوكراني القائم آنذاك على النمط السوفياتي، ومن ضمنها سيطرة المدنيين على الجيش، والمفتّشون المحترفون، والمدقّقون الخارجيون، وكذلك المتخصّصون في الأمور اللوجيستية.
بعد التخلّي عن التركيز السابق في الجيش الأوكراني على أعداد الجنود وكميّة الأسلحة، غرس مستشارو الناتو مفهوم “بناء القدرات”، بحيث يضع القادة الأهداف المطلوبة، مع ضمان أنّ لديهم القوات والأسلحة اللازمة لتحقيقها.
لتعزيز هذا النهج، قدّم الناتو فكرة ضباط الصف noncommissioned officers، أي الجنود المتمرّسين الذين ترقّوا إلى رتب أعلى، ومن موقعهم هذا يعملون كروابط حيوية بين كبار الضباط وجنود القوات البريّة. ساعدت دول الناتو أيضاً القادة العسكريين الأوكرانيين على تبنّي نهج يسمّى “قيادة المهمّة” mission command، حيث يضع المسؤولون الأعلى رتبةً أهدافاً قتاليّة، وينقلون صنع القرار إلى أسفل سلسلة القيادة قدر الإمكان، وصولاً إلى الجنود الأفراد.
وفق النهج السوفياتي، الذي هو سارٍعلى نطاق واسع في روسيا، يُصدر كبار الضبّاط الأوامر، وليس للجنود المشاة أيّ مجال للنقاش أو التكيّف مع ظروف المعركة.
يقول وزير الدفاع الأوكراني السابق أندريه زاغورودنيوك Andriy Zagorodnyuk (تولّى المنصب من 29 آب عام 2019 إلى 4 آذار عام 2020): “لقد أحدث ذلك فرقاً كبيراً جدّاً. تحسين دور ضابط الصف، وتبنّي قيادة المهمّة يرفعان من فعّاليّة قواتك أضعافاً عدّة”.
بالنسبة إلى الملازم كوليش، فإنّ التدريب الغربي كان فعّالاً بشكل مضاعف لأنّ الأوكرانيين كانوا يعرفون التفكير العسكري السوفياتي: “الروس يستعملون تكتيكاتهم النموذجية، التي لم تتغيّر كثيراً منذ عهد ستالين. أوّلاً، قصف المدفعيّة. ثمّ يُضحّون بالكثير من المشاة ليأخذوا مواقعنا”. على النقيض من ذلك، فإنّ الأوكرانيين لا يمكن التنبّؤ بسلوكهم في المعركة، وهم رشيقون. لذلك “ننشر الفوضى في صفوفهم”.
هزيمة 2014 كانت الشرارة
بدأ العمل على تطوير هذه المهارات في مناخ غير ملائم في عام 2008. فقد غزت روسيا جورجيا، ممّا دفع حلف شمال الأطلسي إلى توسيع نطاقه، وإرسال دعوات غامضة إلى أوكرانيا لتكون عضواً فيه. صاغ التحالف خطة عمل من 70 صفحة توضح “المسار الاستراتيجي لأوكرانيا للتكامل الأوروبي الأطلسي”، وهي في الأساس خارطة طريق لكييف للوفاء بالمعايير الديمقراطية لحلف الناتو، بما في ذلك تكوين جيش أكثر احترافاً، وخاضع للسلطة المدنية. اكتسبت هذه الجهود القليل من الزخم بسبب ضعف الدعم في الغرب لهذا المسار، ولوجود مقاومة داخل الجيش الأوكراني ذي النمط السوفياتي. لكنّ الهزيمة التي ألحقها الروس بالجيش الأوكراني في عام 2014، أحدثت صدمة في كييف. عقب ذلك، أمر الرئيس آنذاك، بترو بوروشنكو Petro Poroshenko، بإجراء تحوّل عسكري، وتنشيط جهود الناتو. ركّز الضباط الغربيون اهتمامهم على مركز تدريب عسكري مساحته 150 ميلاً مربّعاً في مدينة يافوريف Yavoriv ، على بعد 10 أميال شرق حدود أوكرانيا مع بولندا التي بات لها هي نفسها دور قيادي في حقبة ما بعد الشيوعية داخل التحالف.
عمل الناتو في أوكرانيا هو أكثر نجاحاً من الجهود الغربية المماثلة في العراق وأفغانستان. يعزو المستشارون الغربيون ذلك إلى المجتمع الأوكراني المتماسك نسبيّاً
في إشارة إلى مدى أهميّة مركز يافوريف في نهاية المطاف، استهدفته روسيا في منتصف آذار بضربة صاروخية، ممّا أسفر عن مقتل 35 شخصاً.
كانت الأولويّة الأولى في عام 2014 هي مساعدة القوات الأوكرانية على قتال وكلاء روسيا في الشرق (القوات الانفصالية). أطلق الناتو دورات في الطب الميداني، والتخطيط للطوارئ المدنية، ومواجهة الحرب الروسية الهجينة hybrid warfare (استعمال أساليب من الحرب النظامية وغير النظامية)، من الطائرات بدون طيار إلى اختراق الهواتف. بدأ الضباط الغربيون بتدريب قوات الحرس الوطني الأوكراني على تكتيكات قتالية حديثة، ممّا دفع مسؤولي الجيش الأوكراني إلى طلب الحصول على تدريب مماثل، كما يتذكّر مسؤول دفاعي أميركي كبير.
في كييف، عمل المسؤولون الحكوميون مع مستشارين من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة ودول أخرى في الناتو لإحداث تغييرات أعمق. أوضح هؤلاء أنّه لجعل الجيش الأوكراني أكثر فعّاليّة، يجب تغيير إدارته على نحوٍ كامل. ويتذكّر الكولونيل المتقاعد ليام كولينز Liam Collins، ضابط تدريب في القوات الخاصة بالجيش الأميركي، أنّ المستشارين لجؤوا أحياناً إلى البرلمان الأوكراني كي يصدر قوانين لتجاوز عقبات معيّنة، مثل الأنظمة الطبية العسكرية والمدنية الموازية. كرّر المسؤولون الأميركيون مراراً شعارات وزارة الدفاع، مثل: “هذه ليست الخطة، إنّه التخطيط”.
يقول كريستوفر ريفز Kristopher Reeves، الكولونيل في الجيش الكندي الذي قاد قسم التدريب في بلاده من 2017 إلى 2018: “عندما قاوم الضباط والبيروقراطيون الأوكرانيون الذين تدرّبوا في الاتحاد السوفياتي هذه التغييرات، حاول المستشارون الالتفاف حولهم. لقد ركّزنا على القادة الذين يمكنهم استخدام طاقاتنا ومضاعفتها”. بحلول موعد مغادرته أوكرانيا، كانت الدورات التدريبية في يافوريف قد تضاعف المنضوون فيها من مجموعات تضمّ 150 جندياً إلى مجموعات قتالية تضمّ أكثر من 400 جندي. بدأ الأوكرانيون في إحلال الجنود المتدرّبين على النمط الغربي في قيادة عمليات المحاكاة القتالية.
أمّا التدريبات السنوية التي نظّمها الجيش الأميركي في يافوريف، والتي أُطلق عليها اسمRapid Trident ، فقد سمحت للقوات الأوكرانية بالتدرّب مع قوات من أكثر من اثنتي عشرة دولة. وفي عام 2018، دعا الجنرال الأميركي المتقاعد تيموثي ماكغواير Timothy McGuire، الذي ساعد في إنشاء مركز يافوريف، الضبّاط الأوكرانيين إلى متابعة مناورات كبيرة لحلف شمال الأطلسي في ألمانيا، حيث شاهدوا وحدة قتالية تستعدّ لموقف دفاعي. قال جنرال أوكراني للجنرال المتقاعد ماكغواير: “لن أفعل ذلك بهذه الطريقة”، مشيراً إلى أنّ القوات “لم تكن مموّهة بشكل صحيح، أو ليست متموضعة جيّداً أو ليست مختبئة بما فيه الكفاية”. كان ذلك رائعاً بحسب تقييم الجنرال الأميركي، وتحوّلت الملاحظة إلى تبيان ما يمكن أن يفعله الأوكرانيون بشكل مختلف، وأُدخلت لاحقاً في صلب المراجعة اللاحقة لهذه المناورة.
“كان هذا بالتأكيد طريقاً باتجاهين”، كما يقول الكولونيل كولينز. “كنّا نتعلّم منهم في الوقت نفسه حي كانوا يتعلّمون منّا”.
يضيف الكولونيل ريفز: “بمرور الوقت، أصبح اختيار القادة يتمّ بشكل أفضل.” وفرضت التغييرات البنيوية والرقابة المدنية طبقات عدة من المراجعة، فكشفت عن الفساد والهدر. وهو غالباً ما أثار غضب الضباط والبيروقراطيين الأوكرانيين كما يتذكّر وزير الدفاع السابق زاغورودنيوك. الإرادة السياسية من الرئيس السابق بوروشنكو ثمّ الرئيس الحالي زيلينسكي حافظت على تقدّم الجهود.
خطّة دفاع أوكرانيّة
مع تزايد التهديدات من روسيا العام الماضي، تسارعت وتيرة التدريب العسكري. كان الرائد بالجيش البريطاني بيل روس Bill Ross المسؤول عن التدريب البرّي البريطاني في أوكرانيا، في سباق مع الزمن، من شهر تشرين الأول حتى شباط، لجعل القوات الأوكرانية مستعدّة أكثر في استعمال صواريخ NLAW المضادّة للدبابات التي كانت المملكة المتحدة تشحنها. كانت كتيبة المشاة البريطانية تخطّط في البداية لتوجيه فرق مكوّنة من 40 أوكرانياً، وفجأة تضاعف العدد مع جنود توافدوا من جميع أنحاء البلاد.
تدرّبت القوات الأوكرانية على نظام NLAW في كانون الثاني الماضي، وكان الأمل، كما يقول، أنّه حتى لو دُرّب بضع مئات من الجنود فقط بشكل مباشر، فيمكنهم أن يُدرّبوا جنوداً آخرين.
إقرأ أيضاً: زيلينسكي: بطل الحرب كيف يصبح بطل سلام؟
في اجتماعات التنسيق الأسبوعية في كييف، بقيادة كولونيل أميركي، كان القرار بتكثيف عمليات التدريب. مع ذلك، استمرّت المقاومة الداخلية للتدخّل الغربي. وعندما وصل الرائد روس إلى معهد جيتومير Zhytomyr العسكري جنوب غرب كييف في تشرين الأول الماضي، مُنع في البداية من الدخول بسبب “اعتراض فرد منهم على تدخّل القوات الغربية”، على حدّ قوله. في النهاية، تمكّن روس من التوصّل إلى شخص أمكنه من دخول المعهد. استجاب فريق روس لقيادة القوة المشتركة الأوكرانية، التي كانت قد وضعت خطة دفاعية لإحباط غزو روسيّ. عندما رأى أخيراً شرائح الخطة التي أعدّها الجيش الأوكراني في شباط الماضي، وهي تحدّد الاستراتيجيات، وفيها الأسهم الحمراء التي تشير إلى البلاد من جميع الجهات باستثناء الغرب، أدرك روس أنّ لدى الأوكرانيين خطة دفاعية: “لقد كانت خطّتهم”، يقول الرائد روس: “لقد ساعدناهم فقط.”
لقراءة النص الأصلي: إضغط هنا