طُويت صفحة الانتخابات الرئاسية الفرنسية، واحتفظ إيمانويل ماكرون بمفتاح قصر الإليزيه لولاية رئاسية ثانية على التوالي. وأقصى منافسته اليمينيّة الشرسة مارين لوبن ذات الوجه البشوش. وبدأت فرنسا الإعداد للخطوة الدستورية المقبلة المتمثّلة في استحقاق الانتخابات البرلمانية التي سُمّيت “المرحلة الثالثة” من الانتخابات الرئاسية نظراً لأهمّيتها. ورشح عن هذه المشهديّة ثلاث إيجابيّات يمكن أن تنعكس على لبنان إذا أجاد الاستفادة منها، وهو الذي أنهى رسمياً المرحلة الأولى من الانتخابات النيابية مع اقتراع المغتربين.
الإيجابيّات الثلاث هي:
1- الولاية الثانية لماكرون.
2- إقصاء لوبان وإبعاد اليمين المتطرّف عن السلطة.
3- نموذج التصويت والاقتراع المفيد.
هنالك إيجابية كبيرة بالنسبة إلى لبنان في إعادة انتخاب ماكرون لولاية رئاسية ثانية وفي فوزه على اليمين. إذ سيظلّ لبنان وملفّه من خلاله وبمساعدة العرب أولوية على المسرح العالمي
1- الولاية الثانية لماكرون: كان لبقاء ماكرون رئيساً، على الرغم من إخفاقاته وأخطائه، وقع إيجابي على لبنان لا مجال لمقارنته أبداً بوصول لوبان الماكرة ويمينها المتطرّف إلى الحكم في فرنسا. كيف لا وهي “خامنئيّة أوروبا” و”ملاليّة فرنسا” بثورتها الانعزالية والنرجسية. فهي لا تؤمن بالتنوّع إلا على طريقتها، ولها تصوّرها المختلف للأخوّة، ولديها أيضاً معاييرها الخاصة لناحية الشراكة والحرّية والعدالة.
هنالك إيجابية كبيرة بالنسبة إلى لبنان في إعادة انتخاب ماكرون لولاية رئاسية ثانية وفي فوزه على اليمين. إذ سيظلّ لبنان وملفّه من خلاله وبمساعدة العرب أولوية على المسرح العالمي. إنّ استمرار ماكرون رئيساً، ولو نُعِت بـ”رئيس الأغنياء”، هو نقطة في صالح المحاولة الجادّة لإدراج لبنان واستقراره و”زركه” في لائحة الاهتمامات الدولية. هي ليست أبداً مسألة سهلة في خضمّ عصف هائل لزوابع وأزمات دولية، خصوصاً مع اندلاع الحرب الأوكرانية الروسية.
نهج ماكرون السياسي هو الأفضل بالنسبة إلى لبنان، فهو وسطي عابر للمؤسّسات الكلاسيكية القاصرة، ويؤمن بالحوار والتنوّع والتلاقي والاندماج، ويقتنع بلبنان الرسالة والمناصفة والحلّ تحت سقف الطائف. وهو الداعم لمجموعة القيم المشتركة والديمقراطية وحقوق الإنسان، والمتحرّر دبلوماسياً والمتقبّل والمنفتح على أيّ سبيل للحل ضمن المسلّمات الأساسية، والمستمرّ بجهوده في حلّ الأزمة اللبنانية انطلاقاً من تحصين جوهر لبنان وحياده وتعزيز العلاقات اللبنانية العربية والمساعدة على إعادة بناء الثقة وتوثيق الروابط بين لبنان والمجتمع الدولي.
على الرغم من إخفاقه وعدم نجاح مبادراته إلا أنّه يُسجَّل له، على سبيل الحركة والحوار، ترميم وتعبيد طريق التلاقي مع المملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي أخيراً. وعلى الرغم من انفتاحه على إيران واتّباعه سلوكاً تفاهميّاً مع حزب الله لضرورة المصلحة والحوار، إلا أنّه ينتقد بشدّة ولا يقبل سياسة إيران التوسّعية وتدخّلها في شؤون لبنان، ولا يستسيغ غلوّ حزب الله، ولا يقبل الحلول والتسويات إلا تحت سقف الطائف والمناصفة والمضيّ قدماً وجدّيّاً بالإصلاحات وأولويّة الحفاظ على وجه لبنان وتمايزه في المنطقة العربية والعالم.
2- إقصاء لوبان وإبعاد اليمين المتطرّف عن السلطة: تخلّص لبنان بالفعل من عبء وصول اليمين إلى الحكم، وحسناً كان إقصاء صغيرة العائلة المتطرّفة، لوبان، على الرغم من تقدّمها وتوسّعها في الخطوات. وارتاح بذلك لبنان من “حكم الملالي الفرنسيّين”، وزمط بالفعل من عهد الثورة القومية اللوبانيّة. فقد كانت تسعى إلى تكريس حكم الأقليّات والتنميط الفكري والثقافي إلى جانب حلفائها الملالي الإيرانيين. وهي الصفويّة أوروبيّاً، العنصرية والمتسلّلة بعجرفتها الذهنية من عهد بائد. وكأنّ لبنان ما كان ينقصه إلا نظام وعهد أيديولوجي عقائدي آخر في الغرب متغوّل بيمينه لمصلحة الشرق. فباتت درجة انحدار اليمين الفرنسي شرقاً أكثر من أهل الشرق أنفسهم.
يتقن اليمين المتطرّف الشعبوي فنّ اكتساب الفئات القابلة للانجذاب نحوهم من خلال العداء للنخب والمؤسّسات، متمظهرين بوهم لبوس السياسيين والبرلمانيين القريبين من مشاكل الطبقات العاملة وفئات الدخل المحدود، وإثارة حماسة مَن يطلق عليهم اسم “السكّان الأصليين” بطريقة سلبية من خلال التقرّب من المشاعر الوطنية بالتخويف من هاجس ضياع الهويّة الأصلية، والانعزاليين الرافضين للتنوّع والانصهار الوطني والاندماج القومي، وهنا مكمن الخطر في تأثير اليمين على لبنان من خلال علاقاته الدولية والخارجية.
ففي تفضيل اليمين سياسة تحالف الأقليّات والتحيّز العرقي، وفي تأييدهم نظام الأسد وتحالفهم مع إيران وامتعاضهم من سياسة التقارب مع دول الخليج، كان الخطر على لبنان وتوجّهه ونظامه.
على الرغم من انفتاحه على إيران واتّباعه سلوكاً تفاهميّاً مع حزب الله لضرورة المصلحة والحوار، إلا أنّه ينتقد بشدّة ولا يقبل سياسة إيران التوسّعية وتدخّلها في شؤون لبنان
3- نموذج التصويت والاقتراع المفيد: لقد استفاد لبنان من التصويت الفرنسي المفيد في الانتخابات الرئاسية، وعليه أن ينتهج النهج نفسه وأن يتّبع نفس الأسلوب أيضاً. لتنصيب ماكرون للمرّة الثانية أثراً إيجابياً على لبنان، وعلى الأقلّ في عدم تغيّر مسوّدة السياسة الدولية والخارجية وبقاء لبنان أولويّةً وصوته مسموعاً ولو بالحدّ الأدنى.
فالتصويت المفيد إجابة على مسألة الحيرة الانتخابية التي تنتاب حاليّاً شريحة واسعة من الناخبين في لبنان الذين لم يقرّروا بعد. ولا يكون التصويت المفيد أبداً حصيلة جهل الناخب بالمرشّحين أو عدم ثقته بأغلب القوائم الانتخابية، وإنّما يكون نابعاً من رغبة الناخب في البحث عن الجدوى الانتخابية وعن الفاعليّة القصوى للصوت الانتخابي، وهنا البيت القصيد والأصل.
إقرأ أيضاً: قراءة في فوز ماكرون: الفرنسيون قلقون.. وخائفون
من خلال إدلاء الناخب بصوته للائحة انتخابية محدّدة فيها الضمانة ويرى أنّ حظوظها في الفوز أكثر جدّيّة من غيرها يفعل الأمر الصحيح على الرغم من أنّه لا ينتمي إليها أو غير منتسب إلى حزبها. ذلك أنّ عليه أن يقتنع بأنّه وصوته مهمّان حسابيّاً وفاعلان وعليه أن يحرص على أن لا يكون تصويته غير ذي فائدة بعدم إعطاء صوته للوائح حظوظها في الفوز معدومة لأنّ في ذلك هدر ولا فائدة منه وسوف ينعكس سلباً بفتحه المجال للمتسرّبين أن يتسلّلوا. فأعلى درجات المسؤوليّة هي في “الاقتناع بالاقتراع”، وأن ينتخب اللبناني ويدلي بصوته لمصلحة الجمهورية والتنوّع والعروبة. فبالتصويت وزيادة نسبة التصويت يحافظ المواطن اللبناني على حقّه وعلى علاقته بالدولة، ويحصّن جمهوريّته من الطارئين والمتسلّقين السلطويين، ويقطع الطريق على المتسيّدين غير المقتنعين بنهائيّة الكيان اللبناني الذين يحاولون عزل لبنان وحرفه عن مرقده الطبيعي العربي والمتنوّع والصديق للمجتمع الدولي والفاعل والمؤثّر، ويساعد على عدم تغيير شكل الدولة ونظامها وتدنيس تاريخها.
تماماً كما فعل الفرنسيون بانتخاب ماكرون.