ليس ما يضمن أن تكون الانتخابات النيابية في لبنان مرآة حقيقية تعكس ما هو عليه فعلاً الوضع في البلد. ستكون هذه الانتخابات نتيجة مباشرة لسلسلة من الحروب كان أبرزها غزوة بيروت التي أخضعها “حزب الله” له في الثامن من أيّار 2008. وقتذاك، لم تصمد الدولة اللبنانيّة في مواجهة مع ميليشيا الحزب المذهبي، التابع لإيران، الذي سيطر على بيروت عسكرياً. ما لبث أن ترجم هذه السيطرة إلى سيطرة سياسيّة حسمت موقع لبنان في المنطقة والفريق الذي بات يتحكّم بشؤونه وشؤون مواطنيه بأدّق تفاصيلها.
عندما ينشغل اللبنانيون بالانتخابات المتوقّعة في الخامس عشر من الشهر الجاري، فإنّهم لا يتوقّفون، مثلهم مثل كثيرين خارج لبنان، عند المشكلة الأساسية التي تتجاوز مسألة الانتخابات. هذه المشكلة اسمها قانون الانتخابات المعمول به والذي فُصِّل أساساً على قياس “حزب الله” الذي ليس سوى لواء في “الحرس الثوري” الإيراني. كلّ ما عدا ذلك تفاصيل لا علاقة لها بمصلحة لبنان في ضوء قدرة “حزب الله” على الاستناد إلى هذا القانون، العجيب الغريب، من أجل ضمان أكثريّة دائمة له في مجلس النواب اللبناني. تسمح له هذه الأكثرية بتغيير هويّة لبنان نهائياً وجعله بلداً طارداً لأهله، تماماً كما سعت إسرائيل في كلّ وقت منذ احتلالها الضفّة الغربيّة في العام 1967، إلى جعلها أرضاً طاردة لأهلها. فعلت ذلك عبر المستوطنات التي أقامتها في كلّ أنحاء الضفّة، والتي شملت تطويق مدينة القدس، من كلّ الجهات، وعزلها عن الأراضي الفلسطينية المحتلّة قدر المستطاع.
لم يكن قانون الانتخابات، الذي أُجريت على أساسه انتخابات العام 2018، سوى ثمرة سلسلة من الحروب خاضها “حزب الله” من أجل إخضاع الشعب اللبناني بدءاً بتفجير رفيق الحريري في 14 شباط من العام 2005 وسلسلة الاغتيالات التي تلت ذلك
لم يكن قانون الانتخابات، الذي أُجريت على أساسه انتخابات العام 2018، سوى ثمرة سلسلة من الحروب خاضها “حزب الله” من أجل إخضاع الشعب اللبناني بدءاً بتفجير رفيق الحريري في 14 شباط من العام 2005 وسلسلة الاغتيالات التي تلت ذلك وكان أوّلها اغتيال سمير قصير وآخرها اغتيال محمّد شطح ولقمان سليم. تبدو الانتخابات المقبلة أقرب إلى حرب أخرى للحزب على لبنان.
تعرّض لبنان، منذ العام 2005، لسلسلة حروب حقيقية استهدفته كما استهدفت اللبنانيين. كانت بينها حرب صيف العام 2006، وحرب الاعتصام في وسط بيروت بغية إغلاقه وشلّ الحركة الاقتصاديّة فيه، وحرب مخيّم نهر البارد الفلسطيني، وحرب التدخّل في سوريا، في سياق الحرب على الشعب السوري، بغية إلغاء الحدود بين البلدين، وحرب إيصال ميشال عون إلى موقع رئيس الجمهوريّة بغية تكريس المبدأ القائل إنّ إيران باتت تقرّر من هو رئيس الجمهورية في لبنان. كانت هناك أيضاً حرب على المصارف وعلى الكهرباء وعلى التعليم وعلى المستشفيات أدّت إلى إفقار لبنان واللبنانيين وجعلهم يعيشون في الذلّ. كانت الحرب الأهمّ على بيروت نفسها وعلى الجبل الدرزي في العام 2008 من أجل إخضاع السُنّة والدروز!
لم يعد هناك مَن يتحدّث عن القانون الانتخابي الذي يزوّر الانتخابات بشكل مسبق. هذا القانون الذي يسمح لـ”حزب الله”، بفضل سلاحه، بإغلاق مناطق سيطرته إغلاقاً تامّاً ومنع أيّ انتخابات فيها كي يسيطر على 27 نائباً شيعياً من أصل 27 في مجلس النوّاب اللبناني. يترك بعد ذلك أبناء الطوائف الأخرى يتقاتلون في ما بينهم بعدما صار “التيّار العوني” أداة طيّعة لديه يستخدمها في كلّ حروبه المستمرّة، وهي حروب على المسيحيين وعلى السُنّة وعلى الدروز.
لم يعد المطروح في لبنان هل ستكون لـ”حزب الله” أكثريّة في مجلس النواب الجديد؟ المطروح هل يمكن للمعارضة التي ستتكوّن… هذا إذا تكوّنت، الحؤول دون تمدّد “حزب الله” أكثر وفرض ثقافته على المناطق اللبنانيّة الأخرى على غرار ما فعله في الجنوب والبقاع؟
يُفترض باللبنانيين الاستعداد منذ الآن لمرحلة ما بعد الانتخابات وما يعدّه “حزب الله” للبلد على كلّ المستويات، خصوصاً بهدف تغيير طريقة عيش اللبنانيين وممارستهم لثقافة الحياة
في النهاية، استطاع “حزب الله” إغلاق مناطق معيّنة في لبنان ومنع أيّ صوت معارض لثقافة الموت، التي ينادي بها، في هذه المناطق. بات متوقّعاً أن تكون معركة لبنان المقبلة معركة تفادي السقوط الكامل أمام “حزب الله” الذي لا يُخفي استياءه على لسان ناطقين باسمه من وجود نمط مختلف للحياة يمارسه اللبنانيون في جونية وجبيل والمعاملتين (مناطق مسيحيّة) وحتّى في بيروت.
يُفترض باللبنانيين الاستعداد منذ الآن لمرحلة ما بعد الانتخابات وما يعدّه “حزب الله” للبلد على كلّ المستويات، خصوصاً بهدف تغيير طريقة عيش اللبنانيين وممارستهم لثقافة الحياة.
على من يعتبر أنّ في مثل هذا الكلام مبالغة، التوقّف عند محطّتين في غاية الأهمّية. محطة السكوت التامّ لرئيس الجمهورية وتيّاره، الذي على رأسه جبران باسيل، أمام خطاب ممثّلي “حزب الله” المتضايقين من شاطئ جونية وجبيل والمعاملتين. أمّا المحطّة الثانية، فهي تتمثّل في ذلك الخضوع لمشيئة “حزب الله” لدى بعض الموارنة، من طينة جبران باسيل، الراغبين في الوصول إلى موقع رئيس الجمهورية بأيّ ثمن كان.
يدفع لبنان واللبنانيون غالياً ثمن إقرار مجلس النواب لقانون الانتخابات الحالي. تبيّن مع مرور الوقت أنّ هذا القانون ليس سوى تتمّة منطقيّة لانتخاب ميشال عون رئيساً للجمهوريّة، أي أنّه بمنزلة تكريس لواقع الاحتلال الإيراني للبنان. تكرّس الاحتلال الإيراني على مراحل بعدما استطاع “حزب الله” ملء الفراغ الأمني الذي نتج عن الانسحاب العسكري والأمني السوري من البلد في 26 نيسان 2005 نتيجة اغتيال رفيق الحريري وما تلا ذلك من أحداث لم تكتمل فصولها إلى يومنا هذا.
إقرأ أيضاً: انتخابات في دولة الحزب
قد يحتاج لبنان إلى انتخابات من النوع الذي سيجري بعد أيّام كي تكتمل فصول السيطرة الإيرانية على بلد جُرّد في السنوات الأخيرة من كلّ مقوّمات وجوده. إنّه بلد، من دون كهرباء، لا يريد أن يعرف فيه رئيس الجمهوريّة وصهره مَن وراء جريمة موصوفة مثل جريمة تفجير مرفأ بيروت. قطع ميشال عون سريعاً الطريق على الحقيقة في تفجير المرفأ عندما استبعد مباشرة بعد الكارثة أيّ تحقيق دوليّ في الجريمة!