ما إن أُعلنت نتائج الانتخابات الرئاسية الفرنسية بفوز الرئيس إيمانويل ماكرون حتى تنفّست أوروبا الصعداء. خلال الحملات الانتخابية انشغلت فرنسا عن الحرب في أوكرانيا على الرغم من خطورتها على الأمن الأوروبي.
لم يكن احتمال توسّع الحرب يُقلق الأوروبيين (كما حدث فعلاً في مولدافيا المجاورة لأوكرانيا) بقدر ما كان يقلقهم احتمال وصول ماري لوبان إلى الرئاسة الفرنسية. ذلك أنّ سيدة اليمين الفرنسي المتطرّف كانت تنادي بأمرين خطيرين في الحسابات الأوروبية:
– الأمر الأول هو انسحاب فرنسا من الاتحاد الأوروبي الذي سيستتبع إسقاط معادلة الثنائية الفرنسية – الألمانية التي تشكّل ركيزة الأمن والاستقرار في أوروبا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.
– أمّا الأمر الثاني فهو التفاهم، وحتى التحالف، مع الكرملين ومع سيّده فلاديمير بوتين بما يتجاوز الحرب في أوكرانيا أو الحرب عليها.
لم يتلقَّ الرئيس بوتين نبأ فوز ماكرون بفرح على الرغم من أنّ ماكرون لم يذهب إلى ما ذهب إليه الرئيس الأميركي جو بايدن من وصف الرئيس الروسي بأنّه مجرم حرب
في ضوء هذين الأمرين كان نجاح لوبان بالرئاسة الفرنسية يعني دخول أوروبا، أو إدخالها، في مرحلة جديدة من الصراعات الداخلية التي سرعان ما ستتحوّل إلى صدامات سياسية وعسكرية، وسيُفرَض عليها معادلات جديدة قائمة على تحالفات بين قوى اليمين المتشدّد في العديد من الدول الأوروبية من جهة، ومع الرئيس الروسي شخصياً من جهة أخرى. من أجل ذلك يمكن وصف هزيمة لوبان في الانتخابات الرئاسية الفرنسية بأنّها أوّل انتكاسة سياسية للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.
كانت استراتيجية اليمين الفرنسي المتشدّد بزعامة لوبان تقوم على تعاون ثلاثي بين دونالد ترامب، فلاديمير بوتين، ماري لوبان. والوجه الآخر لهذه المعادلة كان يتمثّل في حلّ حلف شمال الأطلسي (الناتو) وتشكيل قوة أوروبية خاصة، وفتح آفاق الاتصال والتواصل بين موسكو وواشنطن عبر باريس. وسواء كان ذلك حلم ليلة صيف، أو كابوس ليل عاصف، فإنّ فوز ماكرون بالرئاسة بدّد ذلك وحوّله إلى أضغاث أحلام.
قبل عام ونيّف من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، تعرّضت أوروبا لثلاث صدمات سياسية خطيرة:
تمثّلت الصدمة الأولى في انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (البريكست) على خلفيّة شعار: بريطانيا أوّلاً.
تمثّلت الصدمة الثانية في الآمال التي كانت معلّقة على عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
أمّا الصدمة الثالثة فتمثّلت في ارتفاع أصوات اليمين المتشدّد في العديد من الدول الأوروبية، بما في ذلك إيطاليا، وخاصة في ألمانيا، وحتى في الدانمرك والسويد. كانت هذه القوى اليمينيّة تلتقي على الدعوة إلى التخلّي عن اليورو (العملة الأوروبية الموحّدة البديلة من العملات الوطنية) والانغلاق في وجه الهجرات القادمة عبر المتوسّط، وخاصة من إفريقيا. لم تكتفِ هذه الدول بانتهاج سياسات الانغلاق على الذات لمعالجة قضايا ومخلّفات وباء كورونا، لكنّها ذهبت إلى أبعد من ذلك، إذ أقامت الأسوار المرتفعة حول حدودها (هنغاريا وبولندا مثلاً).
كانت ماري لوبان جزءاً من هذه الحالة العامّة، حتى إنّها كانت تحذّر ممّا تصفه بالاحتلال الداخلي، مشيرة إلى الفرنسيين من أصول شمال إفريقيّة. ونظراً إلى موقع فرنسا في المجموعة الأوروبية، كان وصول لوبان إلى الرئاسة، لو حصل، يعني إعطاء هذه الحالة الأوروبية المتطرّفة قوّة دفع شديدة من شأنها أن تغيّر ليس فقط صورة أوروبا، بل أن تفرض معادلات سياسية تقوم على هذه الحالة، بما في ذلك العلاقة الأوروبية مع الكرملين ومع سيّده فلاديمير بوتين.
وممّا كان يعزّز من حسابات هذه الحركات اليمينية المتشدّدة المستقوية باليمين الفرنسي، والتي كانت تعلّق الآمال العريضة عليه وعلى وصول ممثّلته لوبان إلى الرئاسة، أنّ الرئيس إيمانويل ماكرون كان مرشّحاً لدورة رئاسية ثانية، والتقاليد السياسية الفرنسية لا تعرف حالة ناجحة من هذا النوع إلا مع الرئيس الأسبق الجنرال شارل ديغول. حدث ذلك في عام 1965 عندما انتُخب ديغول لدورة ثانية لم تتكرّر على الرغم من كلّ محاولات الرؤساء الذين جاؤوا من بعده، والذين كانوا يتمتّعون بالأكثرية في مجلس النواب.
لم يتلقَّ الرئيس بوتين نبأ فوز ماكرون بفرح على الرغم من أنّ ماكرون لم يذهب إلى ما ذهب إليه الرئيس الأميركي جو بايدن من وصف الرئيس الروسي بأنّه مجرم حرب. كان ماكرون متفهّماً لهواجس ومخاوف بوتين من تمدّد الحلف الأطلسي شرقاً حتى أوكرانيا المجاورة للكرملين، ولذلك دعا إلى اعتماد سياسة مدّ الجسور معه، ولقد سبق للرئيس ماكرون أن وصف الحلف بأنّه ميّت سريريّاً. إلا أنّ حرب أوكرانيا ورغبة واشنطن في استغلالها لإنهاك روسيا أعادتا الحياة من جديد إلى الحلف ومكّنتاه من الوقوف على قدميه مرّة جديدة، بأسرع ممّا كان يتصوّر حتى أشدّ المتفائلين.
وتقتضي سياسة ماكرون الحدّ من تورّط الحلف في الحرب من دون أن يعني ذلك التغطية على العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا. وهو بذلك يبدو وكأنّه يحمل العصا من الوسط.
من هنا تبدو المسافة شاسعة بين موقفَيْ الرئيس الأميركي والرئيس الفرنسي من مقاربة تداعيات الحرب في أوكرانيا ودور أوروبا في هذه الحرب.
ذهبت أوروبا عبر الحلف الأطلسي إلى أفغانستان استجابةً لطلب الولايات المتحدة. وقاتلت معها هناك لسنوات عديدة. خسرت خلالها المئات من الضحايا. ولكنّ الحرب انتهت بانسحاب أميركي وبانسحاب الحلف الأطلسي من أفغانستان بصورة غير مشرِّفة. وتكرّست عودة حركة طالبان إلى السلطة مباشرة حتى قبل اكتمال الانسحاب الأميركي – الأوروبي منها. سبقت فرنسا الكارثة الانسحابية بانسحاب نظيف قبل عدّة أشهر. يومها وُصِفت بالانهزامية. ولكن تبيّن فيما بعد أنّها كانت على حقّ، وكانت بعيدة النظر وحافظت على كرامة قوّاتها وهيبتها. أدّى ذلك إلى تعزيز مكانة الرئيس ماكرون في بلاده وفي أوروبا. فهل يتمكّن الآن من إعادة توظيف هذه المكانة بأداء دور متميّز عن الدور الأميركي وعن الدور الأوروبي الملتحِق به، للتوسّط في الحرب الأوكرانية؟
حاول ماكرون خلال الحملة الانتخابية الرئاسية وفشل. ولم يكن فشله ذاتيّاً. كانت هناك حسابات روسيّة مبنيّة على احتمال فوز لوبان بالرئاسة. وبموجب هذه الحسابات كان الكرملين يأمل الحصول منها على أكثر ممّا توفّره له وساطة ماكرون.
لقد خسر الكرملين رهانه على فوز لوبان. وخسر رهانه على انكفاء الحلف الأطلسي. وخسر رهانه على تعثّر جو بايدن تحت وطأة المضاعفات الثقيلة على الاقتصاد الأميركي التي خلّفها وباء كورونا. فهل يستجيب لمساعي الرئيس الفرنسي الجديد – القديم؟
إقرأ أيضاً: قراءة في فوز ماكرون: الفرنسيون قلقون.. وخائفون
لم يعرف تاريخ الإنسانية صراعاً وجد طريقه إلى الحلّ الدائم والثابت بالقوّة العسكرية. فالقوّة قد تغيّر المعادلات والأوضاع، لكنّها لا تفرض حلولاً، لأنّ الحلول يُتّفق عليها ولا تُفرَض. وبموجب هذا المنطق يمدّ الرئيس ماكرون يده من باريس قلب أوروبا النابض إلى الكرملين.. لعلّ وعسى!!