بعد 70 عاماً: البابا فرنسيس يتصالح مع الصين

مدة القراءة 5 د

يوجد في الصين 12 مليون كاثوليكي ينتمون إلى الفاتيكان. في عام 1949 قامت الثورة الشيوعية في الصين. وفي عام 1951 قطع الفاتيكان علاقاته مع بيجين على خلفيّة أنّ الثورة تنكر وجود الله، وتتدخّل في الشؤون الداخلية للكنيسة. لم يقتصر الأمر على الكنيسة الكاثوليكية وحدها، بل شمل جميع الكنائس والأديان الأخرى، بما في ذلك الإسلام.

حصرت الدولة الشيوعية في ذلك الوقت سلطة إدارة الشؤون الدينية بها وحدها، وتولّت هي منفردة اختيار العناصر التي تطمئن إليها من المنتمين إلى الأديان والكنائس المختلفة لإدارة هذه الشؤون باسمها وبمرجعيّتها.

يعتمد البابا فرنسيس في مبادرته التصالحيّة الجريئة على سوابق تاريخية. ففي القرن السادس عشر أعطى البابا للملك الفرنسي حقّ تعيين كبار الأساقفة. ووقّع البابا بيوس السابع وثيقة مع نابليون بونابرت تمنحه سلطات مماثلة أيضاً

في عام 1959 أنشأت الحكومة الشيوعية “الهيئة الوطنية الكاثوليكية”، وعهدت إليها إدارة الكنائس التي كانت تابعة للفاتيكان. لم يعترف الفاتيكان بهذه الهيئة ولا بحقّ السلطة الصينية في الإشراف على الكنائس. وافق الفاتيكان فقط على الصلاحيّة الممنوحة حكوميّاً للكهنة المنضوين في الهيئة لإقامة الصلوات الكنسيّة، وذلك استمراراً لعمل الكنيسة.

في الوقت ذاته أنشأ الفاتيكان مجلساً كنسيّاً سرّيّاً من وراء ظهر الحكومة الصينية، ليتولّى باسمه وبإشرافه إدارة الشؤون الكنسيّة.

حاول البابا الأسبق يوحنا بولس الثاني، وخليفته بنديكتوس السادس عشر، معالجة الأمر مع الحكومة الصينية، لكن من دون نتيجة. فالسلطات الصينية تعتبر أنّ الكنائس الصينية هي مؤسسات وطنية. وتعتبر أنّ إدارتها هو شأن وطني وحقّ من حقوقها السيادية. وعلى هذا الأساس تتمتّع الدولة بسلطة تعيين الكهنة وإدارة شؤونهم، وليس أيّ جهة خارجية أخرى، حتى لو كانت الفاتيكان.

لمّا رفض الفاتيكان تلك الإجراءات، طردت الصين السفير البابوي في عام 1951. ومنذ ذلك الوقت انقطعت العلاقات بين المرجعيّتين، الصين والفاتيكان. ولم تفلح مساعي التسوية لردم الهوّة بينهما على الرغم من تعدّد المحاولات.

مبادرة البابا فرنسيس

أمّا الآن فإنّ البابا فرنسيس نجح في فتح صفحة جديدة بين الفاتيكان وبيجين. ونجح في ابتداع حلّ لأزمة تعقّدت مع مرور الوقت الطويل. وبموجب هذا الحلّ أقرّ البابا للحكومة الصينية بعض مطالبها في اختيار الأساقفة الصينيّين.

أدّت هذه التسوية إلى نجاح الفاتيكان وإلى نجاح الصين في تجاوز مشاكل الماضي، وفي إقامة علاقات تعاون على الرغم من كل الاختلافات العقدية التي تباعد بينهما

كان طبيعيّاً أن تلقى هذه الأزمة مَن يعارضها. وكان طبيعيّاً أيضاً أن يتزعّم هذه المعارضة رئيس الأساقفة في هونغ كونغ. ولذلك رفض البابا فرنسيس استقباله في حاضرة الفاتيكان عندما قدم إليها حاملاً مطالب المعارضة.

يعتمد البابا فرنسيس في مبادرته التصالحيّة الجريئة على سوابق تاريخية. ففي القرن السادس عشر أعطى البابا للملك الفرنسي حقّ تعيين كبار الأساقفة. ووقّع البابا بيوس السابع وثيقة مع نابليون بونابرت تمنحه سلطات مماثلة أيضاً.

قبل البابا فرنسيس، قدّم البابا السابق بنديكتوس في عام 2007 تنازلاً مهمّاً للصين يتمثّل باعتراف الفاتيكان بالأساقفة الذين اختارتهم الدولة الصينية (وليس الفاتيكان). وكلّف في ذلك الوقت الكاردينال بارولين (وكان يومها مطراناً) رئاسة وفد للمفاوضات مع الحكومة الصينية.

يشغل الكاردينال بارولين اليوم منصب المستشار الأول للبابا فرنسيس منذ عام 2013، إضافة إلى منصبه وزيراً لخارجيّة الفاتيكان. أمّا ممثّل البابا فرنسيس في المحادثات مع الصين فكان المطران كلاوديو ماري سللي.

مبادرات متبادلة

أعطى البابا دفعة معنوية جديدة لهذه المحادثات عندما زار بنغلادش منذ عامين، وأعلن من هناك أنّ التفاهم مع الصين هو في مصلحة الجميع، وأنّه يتمنّى أن تُسوّى الأمور حتى يقوم بزيارة رسمية للصين. وإذا تمّ ذلك فسيكون أول بابا في التاريخ يزور الصين.

وتعبيراً عن حسن النيّة، كانت الصين قد سمحت في عام 2014 لطائرة البابا التحليق في أجوائها عندما كان في طريقه إلى كوريا الجنوبية للقيام بزيارة رسمية.

أمّا لماذا اتّخذ البابا فرنسيس هذه الخطوة الجريئة، فإنّ الجواب يكمن في الأمر التالي، وهو إثبات الدراسات الكنسية أنّ عدد الكاثوليك في الصين لم يزِد عمّا كان عليه قبل خمسين عاماً. على العكس من ذلك تسجّل الكنائس الإنجيلية تضخّماً كبيراً في عدد أتباعها، سواء تلك التي تنطلق من الولايات المتحدة مباشرة، أو عبر كوريا الجنوبية. وتعاني الكنيسة الكاثوليكية الأزمة ذاتها في دول أميركا الجنوبية، حيث يتضخّم عدد الإنجيليّين على حساب الكاثوليك، علماً بأنّ أميركا الجنوبية تُعتبر خزّان الكاثوليك في العالم.

إقرأ أيضاً: البعد الدينيّ للحرب في أوكرانيا

كلّ ما كان يهمّ البابا فرنسيس، الذي عُرِف عنه الانفتاح والتسامح في إطار الإيمان الكاثوليكي الشديد، هو أن تؤدّي التسوية مع الصين إلى اعتراف الحكومة بشرعيّة المطارنة الثلاثين المؤيّدين للفاتيكان، والذين كانت السلطات الصينية عزلتهم على خلفيّة هذا التأييد. ولتسهيل هذا الأمر وافق البابا من حيث المبدأ على الاقتراح الصيني بأن يختار رئيساً للأساقفة في الصين من بين ثلاثة مرشّحين تسمّيهم الحكومة الصينية، وهو إجراء يشكّل سابقة في التاريخ الحديث للفاتيكان.

أدّت هذه التسوية إلى نجاح الفاتيكان وإلى نجاح الصين في تجاوز مشاكل الماضي، وفي إقامة علاقات تعاون على الرغم من كل الاختلافات العقدية التي تباعد بينهما.

مواضيع ذات صلة

مشاورات “الأعياد”: لا 65 صوتاً لأيّ مرشّح بعد!

تَجزم مصادر نيابية لموقع “أساس” بأنّ المشاورات الرئاسية في شأن جلسة التاسع من كانون الثاني قد تخفّ وتيرتها خلال فترة الأعياد، لكنّها لن تتوقّف، وقد…

السّيناريو البديل عن الانتخاب: تطيير الجلسة تحضيراً لرئاسة ترامب!

في حين يترقّب الجميع جلسة التاسع من كانون الثاني، يحتلّ عنوانان أساسيّان المشهد السياسي: من هو الرئيس المقبل؟ وهل يحتاج موظّفو الفئة الأولى، كقائد الجيش…

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…

الثنائي وترشيح عون: سوياً ضده… أو معه

كعادته، وعلى طريقته، خلط وليد جنبلاط الأوراق عبر رمي قنبلة ترشيحه قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، ليحرّك مياه الرئاسة الراكدة. قبيل عودته إلى…