في 10 كانون الثاني 2015 أطلقت منظّمة الإسكوا تقريرها بعنوان “الفقر في طرابلس”. وجاء في ملخّص نشرة الإسكوا على موقعها الإلكتروني أنّ “طرابلس مدينة فقيرة مع جيوب رفاه. يعاني 57 في المئة من أهلها من الفقر والحرمان، ومنهم 26 في المئة يعيشون في فقر مدقع ويُصنّفون في خانة الأشدّ حرماناً، بينما هناك 77 في المئة متعثّرون اقتصادياً، و35 في المئة يعانون مشاكل صحّيّة، ومثلهم يقطنون في مساكن غير لائقة، و25 في المئة محرومون من التعليم”. وأوصت الدراسة بعدد من الحلول المترابطة لمعالجة الفقر في طرابلس، منها توصيات قطاعيّة، وتوصيات في المجال الاقتصادي، وفي مجال السكن، والتعليم، والصحة. ومن بين التوصيات التي صدرت عن الدراسة ضرورة تقليص التفاوت على مستوى المدينة، وضرورة تنفيذ مشاريع كبرى للتنمية الاقتصادية، والحاجة إلى قيادة مركزيّة محلّية قويّة.
في العام 2017 صُنّفت طرابلس “المدينة الأكثر فقراً على البحر المتوسط”، بحسب تقرير للبنك الدولي.
حبّذا لو يقود فقراء طرابلس المفجوعون فقراءَ لبنان المقهورين في ثورة حقيقيّة. إنّه الأمل الوحيد بالتغيير. التغيير بالانتخابات شعار فارغ
ربّما يرى البعض أنّ العودة إلى هذه الأرقام الخاصّة بطرابلس لم تعُد مهمّة بعدما شمل الانهيار الاقتصادي والمالي والاجتماعي والصحّي والتربوي كلّ لبنان. لكنّنا نعود إليها للتأكيد أنّ مأساة غرق الزورق قبالة سواحل طرابلس نهاية الأسبوع الفائت، وهو الزورق الذي قضى فيه عدد من أبناء المدينة (لم يُحدَّد عددهم النهائي بعد أملاً بنجاة المفقودين)، لا تعود إلى يأس بعض الطرابلسيين، إنّما إلى واقع يائس يشمل كلّ أبناء المدينة ولم يبدأ بعد 17 تشرين الأول 2019، إنّما هو نتيجة تراكم سنوات من الحروب والإهمال والمؤامرات ضدّ طرابلس والطرابلسيّين.
في ما يلي تذكير ببعض المحطّات:
1- في ثمانينيّات القرن الماضي: عمل الجيش السوري على تدمير المدينة من خلال الحرب التي أشعلها الحزب العربي الديموقراطي (العلويّ)، مدعوماً من دمشق، ضدّ حركة التوحيد (السنّيّة)، وعلى إلصاق تهمة التطرّف بأبناء المدينة. استُكمل هذا التدمير بجولات المعارك المتكرّرة بين جبل محسن وباب التبّانة.
2- بعد نهاية الحرب اللبنانيّة: لم يخُض رفيق الحريري معركة جديّة ليدخلها. واتّفقت معه زعامات المدينة التقليديّة وتلك الناشئة حديثاً الحليفة له. فبقيت طرابلس على هامش إعادة الإعمار والمخطّطات الاقتصاديّة والتجاريّة التي عمل على تنفيذها الحريري الأب. وكرر الإبن سعد التجربة نفسها.
3- بعد خروج الجيش السوري من لبنان: دخل تيار المستقبل طرابلس بقوّة. واستقبله أبناؤها بحرارة وحماسة. لكن للأسف لم تقُم الحكومات التي رأسها التيار الأزرق بأيّ مبادرة إنمائية جديّة في المدينة. وكانت زيارات زعيمه في الاستحقاقات الانتخابية مناسبةً لإطلاق الوعود التي لم تجد طريقها إلى التنفيذ. فلا البنى التحتية في المدينة تطوّرت، ولا فرص العمل زادت، ولا الظروف المعيشية تحسّنت. علماً أنّ طرابلس لديها الإمكانات لأن تكون مدينة تجارية لأنّها تطلّ على البحر المتوسط وأبناؤها لديهم خبرة قرون في التجارة. وهذا ما تشهد عليه وتؤكّده أسواقها القديمة. وهي قادرة على أن تكون مدينة صناعية، إذ تتوافر فيها اليد العاملة بكثافة. وتملك الآثار والمواقع التاريخية والبحر، لتكون مدينة سياحية بامتياز.
4- جاء في تقرير الإسكوا (2015) أنّ في طرابلس “جيوب رفاه”. العديد منهم دخل “جنّة” العمل السياسي باسم طرابلس. أبرزهم نجيب ميقاتي ومحمد الصفدي. دخل هؤلاء الندوة البرلمانية بأصوات الطرابلسيّين. ومثّلا طرابلس في عدّة مناصب وزارية. ورأس ميقاتي عدّة حكومات، وهو الآن رئيس حكومة “الإنقاذ معاً”. على الرغم من ذلك، لم يضع أيٌّ منهما أيّ خطة لإنماء المدينة وجلب الاستثمارات إليها. ولم يستثمرا فيها، لخلق فرص عمل لأبنائها. هذه هي الخطيئة الكبرى التي أوصلت طرابلس إلى مأساة غرق أبنائها في عرض البحر. يدرك ميقاتي خطيئته. لذلك لم يقُم بزيارة مدينته المفجوعة. واكتفى بتكليف وزير الشؤون الاجتماعية بتأمين احتياجات المنكوبين من خزينة الدولة الفارغة! فالطرابلسيون يريدون عملاً وليس رغيفاً.
5- أُلصق النظام السوري وحزب الله وحلفائهما بطرابلس صفة التطرّف والإرهاب لإظهار المدينة وكأنّها خارجة عن القانون. بدأ النظام السوري بهذه المؤامرة خلال وجوده العسكري في لبنان. واستكملها النظام اللبناني الذي يسيطر عليه حزب الله. فراج فترةً كلامٌ عن “إمارة اسلامية” في طرابلس. ووصل الأمر إلى حدّ تسويق فكرة أن طرابلس جزء من المشروع الجيوسياسي لـ”داعش” الذي يعمل على بسط دولته حتى البحر المتوسط. وهو ما خلق حالاً من عدم الثقة بين طرابلس والقوى الأمنيّة، بخاصة الجيش اللبناني، علماً أنّ الآلاف من أبناء المدينة منضوون في صفوفه.
تغلي طرابلس بعد مأساة الزورق. يعمّ الغضب المدينة. بالأمس تُرجم باقتحام متظاهرين منزل ميقاتي في محلة الميناء بالمدينة. حبّذا لو يُصار إلى تنظيم غضب الفيحاء في انتفاضة شعبية حقيقيّة تنطلق من طرابلس وتعمّ لبنان الذي أصبح كلّه فقيراً.
إقرأ أيضاً: فاجعة طرابلس: 32 مفقوداً ومتّهم يحاكم نفسه!
أظهرت انتفاضة 17 تشرين أنّ الطرابلسيّين قادرون على تنظيم أنفسهم. فقد كانت ساحتهم أقوى الساحات. لم يجرؤ حزب الله على غزوها كما فعل في ساحتَيْ الشهداء ورياض الصلح وفي ساحات صيدا وصور وغيرهما.
حبّذا لو يقود فقراء طرابلس المفجوعون فقراءَ لبنان المقهورين في ثورة حقيقيّة. إنّه الأمل الوحيد بالتغيير. التغيير بالانتخابات شعار فارغ. فالمنظومة الحاكمة ستدّعي تأكيد شرعيّتها الشعبية بانتخابات مزوّرة بقوّة سلاح حزب الله. وبعدها ستقضي على ما تبقّى من لبنانيين حرقاً في جحيم ميشال عون أو غرقاً في مياه البحر.
* أستاذ في الجامعة اللبنانية