لم يخرج سعد الحريري من السياسة إلا وهو يفكّر في كيفيّة العودة، ولا شيء سوى هذا الاعتبار يحكم موقفه وحركته في الانتخابات النيابية الراهنة.
كان بودّ الحريري أن يلقي خطاباً أمام الذين احتشدوا قرب ضريح والده الشهيد في ذكرى اغتياله في 14 شباط، لكنّه تعمّد إخراج المشهد الصامت على النحو الذي يوصل بلغة الإشارة ما يفيد أنّه ممنوع من الكلام. لكن على الأرض ليست ثمّة ما يمنعه من العمل.
يتّضح ذلك من النشاط اللافت للموالين لتيّار المستقبل على منصّات التواصل الاجتماعي وحركة كوادره وحلفائه والدور الذي يلعبونه في تركيب التحالفات أو عرقلتها. وحين يُسأل كوادر التيار عن هذا النشاط تأتي الإجابة بأنّ الرئيس الحريري لم يتقاعد من السياسة، بل علّق عمله السياسي “بالمعنى التقليدي”، أي بمعنى الترشّح شخصيّاً أو تشكيل لوائح.
لحركة تيّار المستقبل الانتخابية عنوانان أساسيّان:
– الأوّل موجّه ضدّ “القوات اللبنانية”، ومضمونه الاتّهام “بالغدر” و”محاولة الهيمنة على الساحة السنّيّة”. وفي تطبيقات هذا العنوان يشنّ الجيش الإلكتروني للتيّار حملات على كلّ مَن يتحالف مع “القوات” أو يتعاون معها في الدوائر السنّيّة أو يحضر إفطاراً في معراب ويصافح سمير جعجع.
– الثاني موجّه ضدّ الرئيس فؤاد السنيورة ومَن يقف مثل موقفه، ومضمونه الاتّهام “بإضعاف موقف الرئيس الحريري”، من خلال عدم مؤازرة موقفه المتنحّي عن المشاركة في الانتخابات.
المشترك بين الطرفين المستهدَفين في حملات تيّار المستقبل أنّهما يوفّران البديل “الطبيعي” للغالبيّة من السُنّة في غياب لوائح تيار المستقبل عن المشهد الانتخابي. ولا تفسير لذلك سوى أنّ الحريري يريد لهذا الفراغ أن يفرض نفسه ويتحوّل إلى معطى سياسي غير قابل للتجاوز أو التجاهل في المعادلة الميثاقية.
الهدف العمليّ أن تخرج الساحة السنّيّة من الانتخابات بأزمة على مستوى التمثيل لتصبح عودة الحريري مطلباً محليّاً سنّيّاً، وشرطاً طبيعياً لعودة الميثاقية إلى النظام.
ليتحقّق ذلك لا بدّ أن تكثر اللوائح في المناطق السنّيّة وتتشتّت الأصوات بينها، ولو أدّى ذلك إلى هيمنة “حزب الله” على حظٍّ وافر من المقاعد المخصّصة للطائفة، واتّساع قاعدة الغالبية البرلمانية الموالية للحزب، وتثبيت موقع التيار الوطني الحر في النظام بصفته حاملاً لواء أكبر كتلة نيابية مسيحية. مثل هذا الواقع يمكن أن يستفزّ السُنّة محليّاً ويُقلق دول الخليج، فيشعر الجميع بالحاجة إلى عودة “فتاهم”.
لم يخرج سعد الحريري من السياسة إلا وهو يفكّر في كيفيّة العودة، ولا شيء سوى هذا الاعتبار يحكم موقفه وحركته في الانتخابات النيابية الراهنة
الأمثلة كثيرة على هذا التوجّه. في دائرة بيروت الثانية لا يُخفي أنصار التيار الأزرق وقوفهم على طرف النقيض من لائحة الوزير السابق خالد قباني. ويودّ أحدهم ألّا تحصل القائمة على أيّ حاصل ليثبت أنّ فراغ الحريري في بيروت لا يملأه أحد.
في دائرة البقاع الغربي-راشيا، وجد الحزب التقدّمي الاشتراكي نفسه أمام شرط جازم وضعه النائب محمد القرعاوي باستبعاد “القوات”، مع علمه أنّ ذلك يعني إعطاء فرصة كبيرة للقائمة المنافسة (تحالف “حزب الله” مع حسن مراد وإيلي الفرزلي والتيار العوني) للحصول على مقعد رابع سيذهب حكماً إلى العونيين، فيما يكتفي تحالف الاشتراكي-القرعاوي بمقعدين، أحدهما الدرزي لوائل أبو فاعور، وتذهب الأصوات التي تصبّ للائحة القوات هباء إذا ما عجزت عن الوصول إلى عتبة الحاصل.
وفي قضاء زحلة حالة مشابهة. لم يشفع للمرشّح عن المقعد السنّيّ بلال الحشيمي رصيده الشخصي في تيار المستقبل، فتركّزت الحملات عليه لخرقه حرم التحالف مع “القوات”. يبدو في المشهد السوريالي وكأنّ المستقبليّين يفضّلون أن يذهب المقعد السنّيّ إلى المرشّح على لائحة “حزب الله”.
وفي البقاع الشمالي ضرب المستقبليون حُرُماً على تحالف أيّة حيثيّة سنّيّة مع القوات من منطلق أنْ ليس بإمكان جعجع أن يرث زعامة الطائفة. مثل هذا الحرم يمكن أن يقود إلى حرمان القوات والمتحالفين معها من الوصول إلى عتبة الحاصل، وأن يحصد “حزب الله” المقاعد العشرة كاملةً، فيضمّ إلى كتلته المقعد السنّيّ الذي حصلت عليه كتلة المستقبل في انتخابات 2018، ويهب العونيين مقعد “القوات” الذي يشغله أنطوان حبشي.
يشنّ المستقبليون حملتهم على كلّ مَن “يُضعف موقف سعد الحريري” من دون أن يتبرّع أحد بشرح ما هو الموقف الذي يضعفه خالد قباني وأمثاله؟ هل هو المقاطعة؟ هل هو تضخيم أغلبية “حزب الله” والكتلة العونية لإثارة قلق العرب؟
إقرأ أيضاً: الحزب خائف من “طمأنة” قواعده… ومن السفير السعودي
يتحالف تيار المستقبل مع الفراغ. وهو يتحمّل تبعات الدعوة بصريح العبارة عبر صفحات تيار المستقبل على مواقع التواصل الاجتماعي إلى مقاطعة الانتخابات. يريد الإيحاء بأنّ جمهوره يبادر إلى المقاطعة من تلقاء خاطره، أو ينتخب الفراغ.
ما يريده الحريري من الجمهور السنّيّ أسوأ من خطيئة المقاطعة المسيحية في انتخابات 1992. على الأقلّ كانت المقاطعة المسيحية موقفاً سياسياً معلناً ومغطى من المرجعية الدينية. وكان الأفضل للسُنّة أن يفعلوا مثلهم علناً وصراحةً بدلاً من لعبة “التستّر” التي هي في النهاية ليست سوى استقالة صامتة من السياسة والدور والتاريخ.