غداة فاجعة غرق قارب الهاربين من جهنّم، لا مكان لشيء في طرابلس إلّا للغضب. الناس غاضبة من كلّ شيء، من الجيش بالدرجة الأولى لأنّه متّهم، من السلطة الحاكمة وفي الطليعة من سياسيّي المدينة، وكذلك من المرشّحين للانتخابات النيابية. حتّى إنّهم غاضبون بعضهم من البعض الآخر.
المصاب عظيم، وصور الأطفال الشهداء، هؤلاء الورود والرياحين، تكفي لإشعال ثورة شعبية لا تُبقي ولا تذر. شهادات الناجين تزيد من حجم الغضب الشعبي، ولا سيّما الشهادة المؤثّرة لذاك الصبي الذي يتحدّث عن استشهاد والدته وشقيقته أمام عيْنيه.
لسان حال أهل المدينة الغاضبين يردّد: “دمنا ليس ماءً”. الناس في طرابلس كفرت بالدولة وبمؤسّساتها وأجهزتها الأمنيّة. فالمدينة تُذبح ويُراد لأهلها أنْ يموتوا في صمت ومن دون ضجيج.
لكنْ وسط هذه الأجواء المشحونة والدقيقة، ثمّة من يعمل على تأجيج الغضب ضدّ الجيش واستخباراته و”التعليم” عليهما ضمن لعبة “صراع الأجهزة” على أرضٍ كانت لهم على الدوام ملعباً ومرتعاً.
ماضٍ مظلم
تُرى لماذا يصدّق أهل طرابلس أنّ الجيش مُذنب، وأنّه قد يكون قتل عمداً مجموعة من الأبرياء الهاربين من أرض جهنّم نحو ديار الله الواسعة بحثاً عن قليل من الأمل؟
لأنّ تاريخ العلاقة بين مؤسّسة الجيش وباقي الأجهزة الأمنيّة من جهة، وأهل طرابلس من جهة أخرى، كان سيّئاً بل وعظيم السوء. فلا يمكن لطرابلس أنْ تنسى أنّ هناك عشرات الشبّان من أبنائها يقبعون في السجون منذ سنوات بدون محاكمة فقط لأنّهم من مدينة اتّفقوا على تقديمها قُرباناً على مذبح الإرهاب. وبعض هؤلاء بلغ من العمر عتيّاً ولا يدري لماذا هو مسجون وما هي تهمته. وهناك من تُوفّي منهم في سجنه قهراً وكمداً أو بسبب نقص في العناية الطبية.
هذه الاعتقالات جزء كبير منها كان مبنيّاً على “وثائق الاتّصال” غير القانونية، التي اتّخذت حكومة الرئيس تمام سلام عام 2014 قراراً بإلغائها، بطلب من وزير الداخلية آنذاك نهاد المشنوق، لكنّها لا تزال فعّالة حتى يومنا هذا وبها يبطشون.
يُضاف إلى وثائق الخوف والقهر هذه جرائم كثيرة بحقّ شبّان من المدينة ارتكبتها عناصر أمنيّة وبقيت من دون محاسبة فعليّة، لأنّ دم أهل طرابلس “رخيص” بالنسبة إلى “الدولة”، كما يشعر أهلها. ونذكر من شهدائها: نزيه حمود، فواز السمان، عمر طيبا وغيرهم.
نسأل هنا: ماذا حصل في قضية تفجيرَيْ “التقوى والسلام”؟ وكذلك تفجير “التليل” في عكّار توأم الروح والقهر؟ تمّت معاقبة صغار الفاعلين في حين أنّ العقول المدبّرة لا تزال حرّة طليقة. وهل عوقب الذين تسبّبوا بحصول كارثة القارب المتهالك في أيلول 2020؟ ربّما لو جرت محاسبة حقيقية لَما وصلنا إلى هذه الفاجعة اليوم.
المصاب عظيم، وصور الأطفال الشهداء، هؤلاء الورود والرياحين، تكفي لإشعال ثورة شعبية لا تُبقي ولا تذر. شهادات الناجين تزيد من حجم الغضب الشعبي
الأجهزة الأمنيّة تعلم!
يؤكّد عميد دندشي، الوالد المفجوع بأبنائه الثلاثة في تصريح إعلامي، أنّ “الجيش نفّذ إعداماً ميدانياً بحقّ من كانوا على متن القارب، فقد كان باستطاعة دورية خفر السواحل أنْ تلقي حبلاً على قاربهم، أو أنْ يقفز إليه بعض العسكريّين المدرّبين لشلّ حركته وإيقافه، لكنّ الهدف كان إغراقهم والتخلّص منهم”. ويكشف دندشي أنّه اشترى القارب منذ زمن، وأنّه كان يعمل على تجهيزه على الأقلّ منذ ثلاثة أشهر تحت سمع وبصر الأجهزة الأمنيّة التي لم تحرّك ساكناً.
هذا الكلام يجب التوقّف عنده كثيراً. فما دامت الأجهزة الأمنيّة على علم، فلماذا لم تقُم بدورها الطبيعي، وهو الأمن الوقائي الاستباقي. لا سيّما أنّ ضمن المركب هذا نفسه أشخاص آخرون سبق أن جرّبوا وفشلوا، وأكّدوا في تصريحات متفرّقة، ومنشورات على مواقع التواصل، أنّهم سيعاودون الكرّة مثْنى وثلاث ورباع، فلا أمل يُرجى من هذه البلاد.
من جهة أخرى، لا يخفى على أحد أنّ الأجهزة الأمنيّة هي صاحبة اليد الطولى في مدينة طرابلس، وأنّ لدى كلّ جهاز منها عيونه وعسسه المنتشرين في الأزقّة والحواري والمقاهي. وبالتالي فهي إمّا مقصّرة أو أنّها تتغاضى عمداً عن قوارب الهجرة غير الشرعية لأسباب خاصّة بكلّ منها.
هل انقلب السحر على الساحر؟
يرى هذا البعض أنّ استخبارات الجيش لطالما قامت باستخدام عصاباتها في الشارع لإرهاب الناس بعد ثورة 17 تشرين وخلال تظاهرات الثوّار لاحقاً، بهدف تدجينهم أو إخراجهم من ساحة النور نهائياً. وهي مَن تحكّمت بالمنصّة المطلّة على الساحة وبمن يحقّ له الصعود عليها. ثمّ عادت واستخدمت هذه العصابات في معاركها البينيّة مع الأجهزة الأمنية الأخرى للسيطرة على قرار المدينة.
هناك مَن يُعيد التذكير بحادثتَيْ إحراق القصر البلدي في طرابلس والمحكمة الشرعية، اللتين لم تتمّ معاقبة أحد عليهما، ووُجّهت أصابع الاتّهام وقتها إلى الأجهزة، بالوقوف خلف تلك الزمر التخريبية. ومن بين الذين وجّهوا الاتّهام الرئيسان سعد الحريري ونجيب ميقاتي اللذان اتّهما الجيش بالتقصير والتواطؤ، خاصة ميقاتي الذي حاولت بعض العصابات التهجّم على جامعته “العزم” وحاولت إحراقها فردّ بالمثل.
فهل انقلب السحر على الساحر؟
هل بدأت الأجهزة الأمنيّة الأخرى تكيل “اللكمات” للجيش واستخباراته بنفس السلاح الذي احترفت الأخيرة استخدامه على مدى سنوات، وذلك عبر دفش “ثوّار” معيّنين لتأليب الشارع ضدّ الجيش الذي تُرك وحيداً في مواجهة غضب الناس، عارياً من أيّ دعم؟
إقرأ أيضاً: تفخيخ طرابلس بقوارب الموت: استهداف الجيش؟ أو الانتخابات؟
أمْ هناك من يضغط على الجيش لإقفال هذا الملفّ الدسم بشكل نهائي، وفتح باب الهجرة غير الشرعية على مصراعيه؟ خاصّة أنّ الجيش نجح في توقيف 25 مركباً وقرابة 600 شخص خلال سنة واحدة فقط؟
هنا لا يسعنا إغفال الخبر الذي انتشر بالأمس عن قارب يحمل مئة شابٍّ وشابّةٍ من أبناء طرابلس وصل إلى قبرص سالماً بحمولته، غانماً بالهرب من جهنّم ومن الجيش ومركباته البحرية.