كنتُ أحد المتفائلين بوصول نجم السياسة والرياضة عمران خان إلى السلطة في باكستان. وقلتُ إنّ نقل المجتمع السياسي الباكستاني من “الإقطاع” إلى “الحداثة” أمرٌ جيّد.
ولمّا كتبتُ مقالاً في هذا السياق، اتّصل بي دبلوماسي باكستاني وقال لي إنّ “الطرح النظري يدعو إلى التفاؤل، وخطّ الاستقلال عن الغرب الذي يقوده عمران خان سيساعد بلادنا كثيراً، لكنّ احتمالات النجاح لا تبدو كبيرة”.
مضت سنوات أربع، ولم تعُد باكستان أفضل، ولم يحقّق “الزعيم النجم” ما كان مأمولاً، ثمّ إنّه كان سيّء الحظ، إذ قضى نصف السلطة ما بين جائحة كورونا وحرب أوكرانيا.
حافظ عمران خان على علاقة قويّة بالرياض وأبوظبي، وحاول التقارب مع العالم العربي، والتعاون معاً في مكافحة الإرهاب
عائلتان وسلطة واحدة
باكستان بلد ديمقراطي، لكنّ الديمقراطية تدور بين عائلتين لا ثالث لهما: آل بوتو وآل شريف. قدّمت عائلة بوتو ثلاثة زعماء حتى الآن: ذو الفقار علي بوتو، وابنته بنازير بوتو، وزوجها آصف زرداري، والآن يستعدّ الجيل الثالث من أبناء بوتو وزرداري: الحفيد بيلاوال بوتو زرداري، وشقيقته آصيفة بوتو زرداري، وهما زعيما حزب الشعب.
وقدّمت عائلة شريف زعيميْن: نوّاز شريف الذي قام برئاسة الحكومة ثلاث مرّات، وشقيقه مهباز شريف الذي تولّى السلطة قبل أيام. والآن يستعدّ الجيل الثاني: مريم نواز شريف ابنة الزعيم السابق، وحمزة مهباز شريف ابن الزعيم الحالي. ويقود أبناء العمّ حزب الرابطة الإسلامية. وهكذا تدور الحياة السياسية في باكستان بين هذين الحزبين والعائلتين.
تدور السياسة الخارجية الباكستانية مع دوران السلطة حول نفسها، ومن المثير أنّ وزيرة الخارجية الباكستانية الجديدة حنّا رباني خان التي تسلّمت الحقيبة من وزير الخارجية شاه محمود قرشي في عام 2022، هي أيضاً مَن تسلّمت منه وزارة الخارجية عام 2011. في المرّة الأولى كانت وزيرة في حكومة حزب الشعب بزعامة زرداري، وفي الثانية أصبحت وزيرة في حكومة حزب الرابطة بزعامة مهباز شريف.
ومن المثير أنّ الصحافة الباكستانية والهنديّة تحدّثت في المرّتَيْن عن أناقة الوزيرة، ونظّارتها ماركة “روبرتو كافالي”، وعن مظهرها الذي يشبه نجمات بوليوود، وتكرّرت المقالات نفسها والصور ذاتها.
باكستان والإخوان
حين وصلت جماعة الإخوان إلى السلطة في مصر، رحّبت باكستان بالأمر، وقامت وزيرة الخارجية حنّا رباني خان بزيارة القاهرة، ولقاء الدكتور محمد مرسي، للتهنئة بوصوله إلى السلطة، ثمّ دعوته إلى زيارة باكستان.
ولمّا قامت ثورة 2013 في مصر، وسقط حكم جماعة الإخوان، اندلعت تظاهرات في باكستان تهاجم الثورة المصرية، وتطالب بعودة مرسي. لكنّ السلطة الباكستانية سرعان ما سعت إلى التعاون مع النظام الجديد.
التقى الرئيس عبد الفتّاح السيسي برئيس الوزراء عمران خان في مكّة المكرّمة وفي نيويورك. وأرسلت إسلام آباد وزير خارجيّتها محمود قرشي إلى القاهرة للقاء الرئيس السيسي، ودعوته إلى زيارة باكستان.
حافظ عمران خان على علاقة قويّة بالرياض وأبوظبي، وحاول التقارب مع العالم العربي، والتعاون معاً في مكافحة الإرهاب.
يقول خصوم عمران خان إنَّهُ ليبرالي من دون شكّ، لكنّ التطرّف الديني قد ازداد قوّة في أثناء حكمه. ويقول أنصاره إنّ تقاربه مع الصين، وموقفه في حرب أوكرانيا، وانتقاده العنيف لواشنطن، هي التي أطاحت به.
نفت واشنطن، كما نفى الجيش الباكستاني، أيّ دور في الإطاحة بعمران خان، لكنّ الزعيم الجديد قاد هجوماً شديداً على الحكومة الجديدة.
ثمّة وجود إخواني في حزب الرابطة الذي يتزعّمه مهباز شريف، لكنّه وجود لا يتطلّب القلق، إذْ تمثّل علاقة مهباز شريف بالسعودية عنصراً ضاغطاً على الحزب، وإنّ ازدياد العمليات الإرهابية في البلاد، والتدهور الحادّ في الاقتصاد، لن يسمحا بنفوذ أكبر للإخوان، ولا سيّما مع فشل مشروعهم في العالم العربي وخارجه.
الطريق الدائريّ في باكستان
في عهد عمران خان ازداد التعاون مع الصين، وأصبح الممرّ الاقتصادي الصيني – الباكستاني الذي يصل الصين ببحر العرب، هو عنوان ذلك التعاون. وأصبح مشروع “السيل الباكستاني”، الذي ينقل الغاز من كراتشي جنوباً إلى لاهور شمالاً، هو عنوان التعاون مع روسيا.
لكن بينما عزّز عمران خان علاقة بلاده مع الصين وروسيا، تأزّمت العلاقة مع الولايات المتحدة والهند.
لا تملك السلطة الجديدة في باكستان التراجع عن العلاقة مع موسكو وبكّين، لكنّها ستحاول الموازنة بينها وبين العلاقة مع واشنطن. وربّما تدفع العلاقة الشخصية بين الزعيم الباكستاني مهباز شريف والزعيم الهندي ناريندرا مودي إلى خفض حدّة التوتّر مع الهند. ذلك أنّ مهباز ومودي صديقان، وكان مودي قد حضر حفل زفاف أحد أفراد عائلة شريف.
ينادي عمران خان بانتخابات مبكرة، وقال لعشرات الآلاف الذين احتشدوا لدعمه: “إذا لم تستجب الحكومة لنا، علينا أن نستعدّ للزحف نحو إسلام آباد، انتظروا ندائي. يجب أن نكون جاهزين لإسقاط هذه الحكومة المستورَدة. حكومة اللصوص والعبيد”.
بالمقابل قال مهباز شريف: “لقد بدأ فجر جديد، سوف نعيد بناء باكستان”. وهكذا ما بين “حكومة العبيد” و”الفجر الجديد” يدور الخطاب السياسي في باكستان.
إنّ باكستان هي الدولة الإسلامية الوحيدة التي تمتلك السلاح النووي، لكنّ باكستان التي نجحت في صناعة القنبلة النووية لم تنجح في بناء الأمن ولا الاقتصاد. وها هو تنظيم داعش “خراسان” ينافس تنظيم القاعدة وحركة طالبان باكستان وحفنة من التنظيمات المتناثرة لتفكيك الدولة في باكستان.
إقرأ أيضاً: لماذا تقلق إيران من الانفتاح السعوديّ الباكستانيّ؟
تحتاج إسلام آباد إلى الانفتاح على المعطيات العالمية، وعلى تلك التحوّلات التي لا تهدأ في النظام الدولي.
لقد انشغلت باكستان كثيراً بصراعاتها الداخلية، ومنذ عقود تدور باكستان حول نفسها. لقد حان الأوان لأن تدور باكستان حول العالم.
* كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً للرئيس المصري السابق عدلي منصور..
له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.
