في غياب ضربة قاضية لمارين لوبن!

مدة القراءة 5 د

لا يبدو تفوّق إيمانويل ماكرون على منافسته مارين لوبن، في المناظرة التلفزيونية التي تواجَها فيها، كافياً لضمان فوزه في الانتخابات الرئاسيّة الفرنسيّة. لا تزال هناك حظوظ للوبن، علماً أنّ الحظوظ مجرّد آمال ضعيفة. لكن ما لا يمكن تجاهله أنّ احتمال دخولها قصر الإليزيه، في هذه الظروف بالذات، ستكون له انعكاسات ونتائج في غاية الخطورة ليس على فرنسا فحسب، بل على مستقبل أوروبا والعالم أيضاً.

ثمّة عوامل عدّة، غير المناظرة وما أسفرت عنه، يمكن أن تؤثّر في النتيجة النهائيّة. يأتي ذلك خصوصاً بعدما عجز الرئيس الفرنسي عن توجيه ضربة قاضية إلى ممثّلة اليمين المتطرّف. هذا ما كشفته المناظرة التي استمرّت نحو ساعتين ونصف ساعة تبادل فيها الخصمان الضربات الناعمة أحياناً وغير الناعمة في أحيان كثيرة.

استطاع ماكرون جعل منافسته تفقد توازنها في أثناء المناظرة التي أُجريت الأربعاء الماضي، لكن لا يمكن القول إنّه قمعها كلّيّاً على الرغم من اللغة الهجوميّة التي لجأ إليها مرّات عدّة.

استطاع ماكرون جعل منافسته تفقد توازنها في أثناء المناظرة التي أُجريت الأربعاء الماضي

تجعل العوامل التي يمكن أن تؤثّر على النتيجة النهائيّة من احتمال حصول مفاجأة أمراً وارداً، خصوصاً في ظلّ نجاح لوبن في إظهار نفسها في مظهر الشخصيّة المعتدلة. من بين هذه العوامل، استفادة لوبن إلى أبعد حدود، من ترشيح اليميني إريك زيمور الذي نال نحو سبعة في المئة من أصوات الناخبين في الدورة الأولى في العاشر من الشهر الجاري. زايد زيمور، وهو يهودي من أصول جزائريّة، على لوبن يمينيّاً وعنصريّاً، وجعل منها شخصية مقبولة لدى فئات أكبر من الفرنسيين. أهّلها ذلك إلى الدورة الثانية  وإلى المواجهة التلفزيونيّة  الأخيرة مع ماكرون، وهي مواجهة تشير استطلاعات الرأي إلى أنّها جعلت الرئيس الفرنسي يحصل، أقلّه نظريّاً، على نسبة 57  في المئة من أصوات الناخبين. هل تصدق استطلاعات الرأي العامّ في بلد لم يتوقّع فيه أيّ منها حصول المرشّح اليساري الفوضوي جان لوك ميلونشون على 22 في المئة من أصوات الناخبين في الدورة الأولى من الانتخابات؟

لا يزال الرقم الذي حقّقه ميلونشون مثيراً للاستغراب. حلّ ثالثاً خلف ماكرون ولوبن، وكان قريباً من معجزة إقصاء ممثّلة اليمين المتطرّف التي حصلت على 23.15 في المئة من الأصوات. يكشف مثل هذا الاختراق لميلونشون، الذي لا يمتلك أيّ علاقة باقتصاد الدول الحديثة، وجود خلل حقيقي في المجتمع الفرنسي الذي يبدو أقرب إلى مجتمع ضائع في بلد غابت عنه الأحزاب التقليديّة التي هيمنت على الجمهوريّة الخامسة، كما غابت الشخصيّات الوطنيّة التي تمتلك حضوراً شعبياً واسعاً. بات في الإمكان القول إنّ جاك شيراك كان آخر رئيس حقيقي للجمهوريّة في فرنسا. بعد شيراك وفضائح عهدَيْ كلّ من نيكولا ساركوزي وفرنسوا هولاند، صغر حجم فرنسا وصار من السهل الكلام عن شرشحة للسياسة الفرنسيّة داخلياً وخارجياً.

يمكن إيراد أعذار لإيمانويل ماكرون الذي واجه أزمات عدّة منذ تولّيه الرئاسة في العام 2017. في مقدَّم هذه الأزمات جائحة كوفيد – 19، وقبلها الاضطرابات الداخلية التي وراءها شبّان ينتمون إلى حركة “السترات الصفر”. لم يكن لدى هؤلاء من هدف سوى التظاهر وتحطيم كلّ ما تقع عليه أياديهم في المدن الفرنسيّة. عطّل ذوو “السترات الصفر” الاقتصاد الفرنسي أشهراً عدّة قبل أن تظهر جائحة كوفيد التي وضعت السلطات الفرنسيّة في موقف حرج.

تبيّن من خلال المناظرة التلفزيونيّة أنّ الرئيس الفرنسي الساعي إلى ولاية جديدة من خمس سنوات يتقن لغة الأرقام. لا شكّ أنّه تلميذ جيّد استحقّ إعجاب معلمّته وصولاً إلى زواجه منها على الرغم من أنّها تكبره عمراً (الفارق 24 عاماً). يعرف ماكرون في الاقتصاد أكثر بكثير ممّا يعرف في السياسة. الدليل على ذلك الفشل الفرنسي في لبنان حيث لا يعرف ماكرون شيئاً عن طبيعة البلد. بدا الرئيس الفرنسي، من خلال اهتماماته اللبنانيّة، على استعداد للرضوخ لمطالب “حزب الله” الذي يسعى عمليّاً إلى تغيير طبيعة لبنان من منطلق أنّ الحزب خيار قسم كبير من اللبنانيين، علماً أنّ الحزب ليس كذلك. الحزب مفروض على لبنان، وهو قادر على السيطرة على مجلس النوّاب اللبناني بفضل سلاحه غير الشرعي أوّلاً، وبسبب قانون انتخابي وُضع على قياسه ثانياً وأخيراً.

إذا وضعنا جانباً لبنان وأماكن أخرى من العالم، مثل ليبيا ومالي، حيث أخفق ماكرون، لا يمكن إلّا الوقوف معه في معركته مع مارين لوبن التي لديها ارتباط مباشر بفلاديمير بوتين. يؤكّد هذا الارتباط  القرض الذي حصلت عليه في العام 2015 من مصرف روسي. تذرّعت لوبن في المناظرة بأنّها لم تجد مصرفاً فرنسيّاً يعطيها قرضاً. على من أرادت أن تضحك؟ هل يوجد مصرف روسي يتصرّف مع سياسي فرنسي من منطلق تجاري وماليّ بحت؟

ما لا يخفى على أحد أنّ زعيمة اليمين المتطرّف معجبة ببشّار الأسد وبالحرب التي يشنّها على الشعب السوري إعجاباً شديداً. زار أحد مساعديها تييري مارياني، النائب في البرلمان الأوروبي المتزوّج من مواطنة روسيّة، دمشق خمس مرّات بين خريف 2015 وخريف 2017. قابل في كلّ مرّة رئيس النظام السوري ولم يتوقّف عن امتداحه. لا يمكن القول إنّ لوبن ترفض إدانة الحرب الروسيّة على أوكرانيا فحسب، بل تمثّل أيضاً امتداداً للسياسة الروسيّة في الشرق الأوسط…

إقرأ أيضاً: انتخابات فرنسا منذ 1958: نهاية الأحزاب التاريخية..

أيّ فرنسا بعد انتخابات 2022؟ على الرغم من أنّ الفرنسيين ليسوا في وارد الذهاب إلى مغامرة الإتيان بيمينيّة متطرّفة رئيسة للجمهوريّة، لكنّ هذه الانتخابات في دورتها الثانية والأخيرة تبقى انتخابات كلّ المخاطر. على رأس هذه المخاطر شرذمة أوروبا التي حافظت، أقلّه إلى الآن، على حدٍّ أدنى من التضامن في مواجهة المغامرة الأوكرانيّة لفلاديمير بوتين الذي  اختار عزل روسيا عن كلّ ما هو حضاري في هذا العالم. نعم حظوظ مارين لوبن تبقى ضعيفة… لكنّ المخاطر التي ستترتّب على نجاحها من النوع الكبير، إذ معناها الأوّل خروج فرنسا من أوروبا!

مواضيع ذات صلة

سيادة الرئيس.. نتمنى أن نصدقك

“لو كنتُ رئيساً للولايات المتحدة، لما اندلعت حرب أوكرانيا وغزة” هذا صدر البيت.. أما عجزه، فسوف يوقف الفوضى في الشرق الأوسط، وسيمنع اندلاع حرب عالمية…

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….