على الرغم من الاستعدادات للانتخابات النيابية يتابع اللبنانيون الانتخابات الفرنسيّة. ففرنسا هي الأمّ الحنون للبعض منهم (المسيحيين). وتبدو مقاربتها للوضع اللبناني مناسبة للبعض الآخر (حزب الله). وينظر إليها البعض الثالث بعين الصداقة (السُنّة، بسبب الصداقة التي جمعت رفيق الحريري بجاك شيراك). اهتمام الرئيس ماكرون بالقضية اللبنانية منذ مؤتمر “سيدر”، مروراً بانفجار المرفأ حتى اليوم، يزيد من متابعة اللبنانيين لهذه الانتخابات، خاصة أنّ ماكرون مرشّح وله حظوظ كبيرة بالنجاح.
ليل أمس جرت المناظرة العلنية بين المرشحين ماكرون ولوبان، ويوم الأحد المقبل يتوجّه الفرنسيون للمرّة الحادية عشرة لانتخاب رئيس للجمهورية. وللمرّة الثانية سيصوّتون لانتخاب رئيس من خارج الحزبين التقليديّين، الديغولي والاشتراكي، اللذين حكما الجمهورية الفرنسيّة الخامسة التي أُسّست في 4 تشرين الأول 1958. إنّه تاريخ من الديمقراطية يدوّي فيه صوت الناخب.
ليل أمس جرت المناظرة العلنية بين المرشحين ماكرون ولوبان، ويوم الأحد المقبل يتوجّه الفرنسيون للمرّة الحادية عشرة لانتخاب رئيس للجمهورية
في 5 كانون الأول 1965 جرى انتخاب الرئيس مباشرة من الشعب للمرّة الأولى في فرنسا. اعتقد حينها الرئيس التاريخي شارل ديغول أنّه سيحصل على الغالبية المطلقة في الدورة الأولى. ولكنّه لم يحصل إلّا على 44.6% من الأصوات، مقابل 7 مرشّحين آخرين (واحد من اليسار الاشتراكي واثنين من تيّار الوسط ومرشّح عن اليمين المتطرّف ومرشّح سادس مستقلّ). لكنّه عاد وفاز في الدورة الثانية بـ 55.2% من الأصوات. وكانت نسبة التصويت عالية جدّاً (84%).
في العام 1969 استقال ديغول إثر خسارته استفتاءً شعبيّاً أراد من خلاله إعادة تأكيد شعبيّته بعد أحداث أيار 1968. فترشّح لخلافته رئيس وزرائه جورج بومبيدو، إضافة إلى 6 مرشّحين آخرين. غاب اليسار الاشتراكي عن الدورة الثانية، وفاز بومبيدو فيها بـ58.2% من الأصوات. وهو ما أكّد أنّ فرنسا لا تزال “ديغوليّة”، وفيّة لزعيمها الذي حرّرها من الاحتلال الألماني.
ظهور اليمين المتطرّف
في العام 1974 جرت انتخابات رئاسية مفاجئة بعد وفاة الرئيس بمرض السرطان. تنافس فيها 12 مرشّحاً بينهم امرأة للمرّة الأولى في تاريخ فرنسا، هي آرليت لاغييه، أيقونة النضال العمّالي. وسُجّل في تلك الانتخابات دخول اليمين المتطرّف السباق الرئاسي بزعامة جان – ماري لوبان (والد مارين لوبان). تقدّم في الدورة الأولى الاشتراكي فرانسوا ميتران على الديغولي فاليري جيسكار – ديتسان. لكنّ الأخير فاز في الدورة الثانية بـ50.8% من الأصوات. للمرّة الأولى جرت مناظرة بين المرشّحَيْن للدورة الثانية بُثّت مباشرة عبر الإذاعة والتلفزيون. وهو ما رفع نسبة التصويت إلى 87.3% من الناخبين.
في انتخابات العام 1981 خُفّض سنّ الاقتراع من 21 إلى 18 سنة، فزاد عدد الناخبين 6 ملايين. تنافس 10 مرشّحين بينهم الرئيس المنتهية ولايته جيسكار – ديستان. وكالعادة كانت المنافسة في الدورة الثانية بين اليمين واليسار. لكن على غير العادة، وللمرّة الأولى، انتهت بدخول رئيس من اليسار قصر الإليزيه. فاز فرانسوا ميتران بـ51.8% من الأصوات. فكان ترشيحه الثالث ثابتاً.
عاد الفرنسيون وانتخبوا ميتران لولاية ثانية عام 1988. إذ فاز على منافسه الديغولي ورئيس وزرائه جاك شيراك بـ54% من الأصوات. للمرّة الأولى عرف الحكم في فرنسا المساكنة بين رئيس يساريّ ورئيس حكومة يمينيّ. لا يزال الفرنسيون يذكرون المناظرة التلفزيونية التي جمعت المرشّحَيْن، وفيها توجّه ميتران إلى شيراك باستعمال لقب “السيّد رئيس الوزراء…”. فردّ شيراك: “الليلة لست رئيس الجمهورية، نحن هنا بصفة مرشّحَيْن متساويين… لذلك اسمح لي بمناداتك السيّد ميتران”. فأجابه هذا الأخير، ببرودته المعهودة: “أنت على حقّ حضرة السيّد رئيس الوزراء”.
يوم الأحد المقبل يعود ماكرون ولوبان للمواجهة. لكنّ النتيجة لن تكون هي ذاتها. حظوظ ماكرون متقدّمة
واستمرّت المنافسة في الانتخابات الرئاسيّة الفرنسيّة بين اليمين واليسار.
في انتخابات 1995، ترشّح عن اليمين جاك شيراك وإدوار بلادور وعن اليَسار الاشتراكي ليونيل جوسبان. تقدّم هذا الأخير في الدورة الأولى بسبب انقسام أصوات اليمين بين شيراك وبالادور. لكن فاز في الدورة الثانية جاك شيراك بـ52.6% من الأصوات. تجدر الإشارة إلى أنّه في تلك الانتخابات حدّد القانون سقف الصرف الانتخابي بـ 14.8 مليون يورو في الدورة الأولى و19.8 مليون يورو في الدورة الثانية.
زلزال 2002
سُمّيت انتخابات 2002 بـ”الزلزال”. فقد وصل للمرّة الأولى إلى الدورة الثانية جان – ماري لوبان، زعيم اليمين المتطرّف. مذّاك ستفرض “الجبهة الوطنية” (اسمها اليوم “التجمّع الوطني”) نفسها لاعباً أساسياً في كلّ انتخابات فرنسيّة. وبدأت سياسة “شيطنة” اليمين المتطرّف التي نجحت في دفع غالبية الأحزاب، بينها اليسار الاشتراكي، إلى التصويت لمرشّح اليمين الديغولي لقطع طريق قصر الإليزيه على لوبان. ففاز شيراك بولاية ثانية (قُصّرت مدّتها لـ 5 سنوات) بـ82.2% من الأصوات مع نسبة مشاركة بلغت 79.7%.
في انتخابات 2007 وصلت امرأة إلى الدورة الثانية للمرّة الأولى في تاريخ الانتخابات الفرنسيّة. تنافست سيغولين رويال الاشتراكية مع نيكولا ساركوزي. لم يحالفها الحظ. فاز ساركوزي بـ53.1% من الأصوات.
في انتخابات 2012 خسر ساركوزي مقابل فرانسوا هولاند. وهو ما أظهر وَهن وتعب اليمين. بعد حكم الجمهورية الخامسة على مدى 5 عقود تقريباً لن يستطيع الديغوليّون من الآن وصاعداً إيصال مرشّحهم أو مرشّحتهم إلى الدورة الثانية، الأمر الذي سيؤكّد أنّ فرنسا تتغيّر.
إقرأ أيضاً: لوبان تخفّف يمينيتها… فهل تغيّر مستقبل فرنسا؟
المفاجأة الكبرى والتغيير الكبير كانا في انتخابات 2017. خرج من الدورة الأولى الحزبان اللذان حكما الجمهورية الفرنسية الخامسة منذ تأسيسها. فكانت المنافسة في الدورة الثانية بين الشاب إيمانويل ماكرون (39 سنة) الذي أسّس تيّاراً سياسياً قبل أشهر من الانتخابات، وزعيمة اليمين المتطرّف مارين لوبان. فاز ماكرون بنسبة عالية جدّاً (66.1%).
يوم الأحد المقبل يعود ماكرون ولوبان للمواجهة. لكنّ النتيجة لن تكون هي ذاتها. حظوظ ماكرون متقدّمة. من جهة لأنّه نجح في ولايته بخاصة في إدارة أزمة كورونا وملفّ الحرب الروسيّة ضدّ أوكرانيا، ومن جهة ثانية لأنّ سياسة لوبان الفرنسية والأوروبية تُقلق الفرنسيّين وتنفّرهم.
يوم الأحد المقبل يتوجّه ملايين الفرنسيّين إلى صناديق الاقتراع ليؤكّدوا إرادتهم في التغيير. فالشعار عندنا هو حقيقة عندهم.
* أستاذ في الجامعة اللبنانية