ينهمك رئيس الحكومة نجيب ميقاتي بالأخذ بأسباب البقاء في السراي الحكومي على رأس الحكومة الجديدة بعد الانتخابات، فيما ينشغل “حزب الله” بترتيب المعادلة التي ستحكم عودة الرجل، بحيث لا يعود اسمه أو لونه مهمّاً بقدر ما هو مهمّ لون الحكومة والحكم.
يحسب ميقاتي في رصيده “إنجاز” التوصّل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي على مستوى الخبراء، وعودة السفراء العرب إلى بيروت، وإقرار خطة الكهرباء المحدّثة، وفتح الباب أمام استجرار الغاز المصري والكهرباء الأردنية عن طريق سوريا بضوء أخضر أميركي. ولعلّه يجد في هذا الرصيد ما يُغري “حزب الله” الذي سيكون في حاجة إلى وضع الاقتصاد على جهاز الإنعاش.
يخطّط “حزب الله” لهندسة مجلس نيابي يكون للثنائي الشيعي فيه كامل النصاب الشيعي وتحالف يضمّ الكتلة الكبرى لدى المسيحيين وتمثيلاً وازناً لدى السُنّة، بما يقود إلى إدارة الاستحقاق الرئاسي بأريحيّة معقولة
يبدو ميقاتي مرشّحاً مثاليّاً لِما هو مطلوب. فللرجل تاريخ مشهود من البراغماتية:
1- دخل إلى السراي للمرّة الأولى رئيساً “محايداً” للحكومة بعد زلزال استشهاد الرئيس رفيق الحريري ليكون بمنزلة “بوليصة” تأمين مزدوجة في اتّجاهين: ضمان عدم قهر السُنّة المكلومين بقتل زعيمهم، وضمان عدم انقلاب الحكم إلى يد المناوئين لـ”حزب الله” والنظام السوري.
2- عاد في 2010 مكلّفاً باسم “اللون الواحد” بعد إقصاء لا سابق له في الشكل والمضمون للتيّار الأكثر تمثيلاً للسُنّة. لكنّه استعاد في الممارسة دور “البوليصة” لعدم تهميش السُنّة في الإدارة العامّة والأجهزة الأمنيّة على الأقلّ. فحال دون شنّ حملة تنكيل على غرار تلك التي غطّتها حكومة سليم الحص في عهد إميل لحود (1998 – 2000).
3- أمّا التكليف الثالث لميقاتي في 2021 فكان شيئاً من هذا وشيئاً من ذاك، فقد أتى بعد إقصاء مرير لسعد الحريري. لكنّ التكليف كان بإمضاء نادي رؤساء الحكومات السابقين، بمن فيهم الحريري نفسه، الذي لم يبخل بدعم لفظي علنيّ لميقاتي.
“بروفايل” الرجل يسمح له إذاً بأن يدخل السراي لا ممثّلاً للسنّة في الحكم، بل كبوليصة تأمين لعدم إقصائهم وإخراجهم من الإدارة. وتلك مهمّة ممكنة نظريّاً، سواء كان للسُنّة تمثيل كبير من خلال كتلة متماسكة في البرلمان أم لم يكن وهو الأرجح.
في الحالين بإمكان الرجل أن يقول إنّه يحظى بمقعد شرعي في نادي رؤساء الحكومات، وإنّه يستطيع أن يرعى مصالح الطائفة في لحظة تداعيها مؤسّساتيّاً. وهذا هو المغزى العميق لعدم ترشّحه في الانتخابات البرلمانية. إنّه بشكلٍ ما لا يدّعي الزعامة المطلقة ولا يعرف قواعد السعي إليها، بل يقول إنّه البوليصة الصالحة من دون الحاجة إلى كتلة نيابية جرّارة.
حاجة الحزب ومخطّطه
ينتعش مثل هذا الدور حين يكون “حزب الله” في حاجة إليه. للحزب أولويّتان في الانتخابات المقبلة: مسيحية وسنّيّة. في الساحة المسيحية يريد الحزب أن يثبت معادلة أنّه حليف الكتلة المسيحية الكبرى في البرلمان، وهذا يقتضي حرباً على جعجع حتى آخر صوت.
أمّا الساحة السنّيّة فيعمل الحزب بدأب لاختراق شرعيّة التمثيل فيها، ليزعم لنفسه الكتلة الكبرى من الموالين والحلفاء في غياب تيار المستقبل. وساعده “المال النظيف” في ظلّ أسوأ أزمة اقتصادية يشهدها لبنان منذ أكثر من مئة عام. فليس سرّاً أنّ أهل السُنّة فيهم العديد الأكبر من الفقراء بين كلّ الطوائف في لبنان منذ التسعينيّات. وقد تواطأ اشتداد الأزمة الاقتصادية مع تواطمع غياب الحريريّة وضعف إمكانات الجمعيّات والمؤسّسات الاجتماعية. فخلت الساحة للمازوت الإيراني وبطاقات السَجّاد. ويخبر كثيرون في القرى عن إحكام نظام التوزيع الذي يعتمده الحزب، بحيث يربط المستفيدين بشبكة تضمن الولاء والانتظام في التصويت. ويُضاف إلى ذلك توسيع شبكة المنضوين في “سرايا المقاومة” في القرى السنّيّة.
مجلس نوّاب “شيعيّ”
هكذا تكوّنت “بلوكات” من الأصوات تكفي لقلب الموازين في الدوائر المختلطة حين تكثر اللوائح وتتشتّت أصوات الآخرين. وليس غير ذي مغزى أن يقدّم الحزبُ مرشّحين من أكبر عائلتين سنّيّتين في البقاع الشمالي: الحجيري في عرسال والصلح في بعلبك، وأن يقدّم مرشحاً من إحدى العائلات الكبرى في عقر مجدل عنجر في قضاء زحلة.
في محصّلة المشهد الانتخابي، يخطّط “حزب الله” لهندسة مجلس نيابي يكون للثنائي الشيعي فيه كامل النصاب الشيعي وتحالف يضمّ الكتلة الكبرى لدى المسيحيين وتمثيلاً وازناً لدى السُنّة، بما يقود إلى إدارة الاستحقاق الرئاسي بأريحيّة معقولة.
تحت سقف هذا المجلس ينبغي لميقاتي أن يعود إلى السراي بمعادلة تعطيه الوكالة للتحرّك في هامش سياسي محسوب وفي حيّز اقتصادي يتّسع أو يضيق بحسب تطوّرات المشهد السياسي. سيكون عليه أن يفعل الكثير للحصول على الأموال من صندوق النقد الدولي والجهات المانحة العربية والدولية لإبقاء الاقتصاد على قيد الحياة، فيما يظلّ الإمضاء النهائي بيد الحزب ولا أحد سواه، بحسب تطوّرات العلاقة بين إيران والغرب.
إقرأ أيضاً: حزيران 2022: الثورة “راجعة”… والحزب لن يحكم
ستكون سدّة الحكم المطلق للحزب وسدّة المسؤولية لميقاتي منزوعة من القرار. وسيكون ميقاتي في هذه المهمّة مكشوف الظهر، إذ إنّ مفتاح تكليفه وانعقاد حكومته في كلّ جلسة من الجلسات في حارة حريك.
لا يبدو ميقاتي ممانعاً للعودة وفق هذه المعادلة، بل إنّه يراها أفضل حالاً ممّا كان عليه عام 2010، حين كان محاصَراً في الوسط السنّيّ، بينما يبدو له أنّ طائفته لن تطلب أكثر من بوليصة التأمين الإلزامي، بالحدّ الأدنى للتغطية، في مرحلة يقبض فيها الحزب على الحكم والأكثريّة.