عقيل شاه (Aqil Shah) – Foreign Affairs
في 10 نيسان، سقط عمران خان على نحوٍ قاسٍ، بعد ولاية استمرّت لأكثر من ثلاث سنوات كرئيس لوزراء باكستان. سقطت حكومته بعد خسارة تصويت بحجب الثقة، وهي أداة إجرائية نموذجية في الديمقراطيات البرلمانية للإطاحة برؤساء الوزراء الذين فقدوا أغلبيّتهم في المجلس التشريعي. لكن هذه هي المرّة الأولى في تاريخ باكستان التي يُعزل فيها رئيس الحكومة من خلال إجراء دستوري، وليس عن طريق انقلاب عسكري أو حكم قضائي. أنهى التصويت أزمة سياسية نتجت عن رفضه العنيد للتنازل عن السلطة ومحاولاته تجاوز أيّ ضوابط على منصبه وسلطته .لكنّ الإطاحة بحكومة خان ليست انتصاراً مطلقاً للديمقراطية الباكستانية، بل هي دليل على النفوذ المستمرّ للجيش وتحكّمه بسياسة البلاد.
صعد عمران خان إلى السلطة على أكتاف الجنرالات الباكستانيين في عام 2018. كانوا سئموا من الحزبين السياسيّين الرئيسيّين في البلاد (الرابطة والشعب)، وقد اتُّهم قادتهما منذ فترة طويلة بالفساد، وحتى بعدم الولاء للدولة. ورفع الجنرالات خان إلى صدارة الحكم، وهو لاعب كريكيت سابق أسّس حزبه قبل عقدين من الزمن. لكن بعد ما يقرب من أربع سنوات أساءت فيها حكومة خان إدارة الاقتصاد بشكل صارخ، ونأت عن الحلفاء الخارجيين لباكستان، بما في ذلك الصين والولايات المتحدة، واشتبكت مع الجيش، قرّر الجنرالات أنّ وقته قد انتهى. حلّت حكومة ائتلاف مدنية جديدة محلّ حكومة خان، لكنّ الجيش سيبقى الحَكَم السياسي النهائي لباكستان.
تُنهي الإطاحة بخان نظاماً هجيناً غريباً كان رئيس الوزراء يحكم فيه فعليّاً بمباركة وتوجيه الجنرال قمر جاويد باجوا قائد الجيش الباكستاني
صعود وسقوط النظام الهجين
تُنهي الإطاحة بخان نظاماً هجيناً غريباً كان رئيس الوزراء يحكم فيه فعليّاً بمباركة وتوجيه الجنرال قمر جاويد باجوا (Qamar Javed Bajwa)، قائد الجيش الباكستاني. وصل خان إلى السلطة في عام 2018، بعدما تلاعبت وكالة الاستخبارات الرئيسية في البلاد (ISI) بالانتخابات لحرمان الرابطة الإسلامية الباكستانية، أو جناح نواز شريف فيها من الفوز، وهي حزب يمين الوسط برئاسة سلف خان، نوّاز شريف. اعتمدت حكومة خان تقريباً على دعم الجيش من خلال وكالة الاستخبارات الباكستانية، التي، في اللحظات الحاسمة، دفعت السياسيين المعارضين تحت التهديد لمساعدة خان في الحفاظ على أغلبيّته في البرلمان. لم يقبل النظام سوى القليل من المعارضة، واتّخذ إجراءات صارمة ضدّ منتقديه في وسائل الإعلام، وأرهب الناشطين السياسيين، وسجن قادة المعارضة المشاكسين، وخاصة من حزب الرابطة، بتهم فساد لا أساس لها.
تعهّدات خان الفاشلة
مع ذلك، سرعان ما تخلخل تحالف خان – باجوا، بسبب الأداء الاقتصادي الضعيف، والاتّهامات المستمرّة بالفساد. تعهّد خان بإنشاء باكستان “جديدة”، وقدّم وعوداً سامية (القضاء على الفساد في 90 يوماً، على سبيل المثال، وبناء خمسة ملايين وحدة سكنية عامّة)، واقترح نظريّات تنمية غريبة (بما في ذلك “اقتصادات البيض” التي استُهزئ بها على نطاق واسع، وهي خطّته من أجل تشجيع النساء الريفيّات الفقيرات على تربية الدجاج) مع المطالبة بقروض لمشاريع البنية التحتية التي بدأتها حكومة حزب الرابطة الإسلامية الباكستانية السابقة.
كانت إخفاقاته في الحكم واضحة بشكل خاص في ولاية البنجاب، أكثر المقاطعات الباكستانية اكتظاظاً بالسكان، حيث مارس سيطرة مباشرة على الإدارة المحليّة، بينما كان حاكم الولاية دمية وحسب في يد الحكومة المركزية. ندم الجيش على ارتباطه الوثيق بخان، خوفاً من تلطيخ صورته العامّة بسبب سوء الإدارة، ومزاعم تفشّي الكسب غير المشروع في البنجاب، وكذلك بسبب التدهور العام للاقتصاد الباكستاني.
في عام 2018، عندما تولّى خان السلطة، كانت نسبة نموّ الناتج المحلّي الإجمالي الباكستاني عند أعلى مستوى خلال عقد من الزمن (5.8%). لكنّ الاقتصاد بعد ذلك انكمش بشكل حادّ، واستمرّت حالة الركود منذ ذلك الحين حتى بعد حساب التأثير السلبي لجائحة كورونا. وفي عهد خان، ارتفع التضخّم من 5.1% إلى 12.7%، وارتفع معدّل البطالة. وزاد الدين الخارجي من 95 مليار دولار إلى 130 مليار دولار. 35 مليار دولار في ثلاث سنوات فقط. وأدّت الخلافات حول السياسة الخارجية إلى توتّر العلاقات بين خان وباجوا. فانتقادات خان الشديدة لرئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي (Narendra Modi)، على سبيل المثال، وقراره منع التجارة مع الهند، تتناقض مع نهج باجوا الأكثر تصالحية اتّجاه نيودلهي. وأخيراً، رحلة رئيس الوزراء غير الحكيمة إلى موسكو في شباط الماضي، عشيّة الغزو الروسي لأوكرانيا، إذ قال بعد هبوطه في موسكو في اليوم السابق لعبور الدبابات الروسية إلى أوكرانيا: “يا له من وقت فيه الكثير من الإثارة”، وهي الجملة التي حفّزت قائد الجيش باجوا على توجيه توبيخ علنيّ نادر إلى عمران خان.
ربّما كان انهيار النظام الهجين أمراً لا مفرّ منه بعدما قرّر باجوا تعيين رئيس جديد للاستخبارات في الخريف الماضي ليحلّ محلّ الجنرال المثير للجدل فايز حميد، وهو حليف لخان كان يطمح إلى أن يصبح قائداً للجيش. ففي أوائل تشرين الأول عام 2021، أعلن الجيش عن تعيين مدير عامّ جديد لجهاز الاستخبارات الباكستانية. حاول خان تأجيل التعيين لأسابيع قبل أن يتراجع أخيراً تحت ضغط العسكر، على الرغم من تبريره بأنّ حميد ضروري لمعالجة “الوضع الحرج” في أفغانستان المجاورة (حين استعادت حركة طالبان السلطة قبل أشهر فقط). ويعتقد النقّاد أنّ خان لم يكن يستطيع تحمّل فقدان الجنرال، وهو الذي سيحتاج إلى مساعدته في الانتخابات النيابية المقبلة المقرّر إجراؤها في عام 2023.
الأرجح، وفقاً لأحد مساعديه المقرّبين، أنّ واشنطن سئمت من معاداة خان لسياساتها، وخاصة ميله نحو روسيا، ومن رفضه السماح بإنشاء قواعد للطائرات بدون طيّار الأميركية على الأراضي الباكستانية
إخراج عمران خان
خلاف خان مع باجوا شجّع المعارضة في أوائل شباط الماضي على التوحّد لمحاولة الإطاحة برئيس الوزراء من خلال تصويت بحجب الثقة بمساعدة شركائه الساخطين في الائتلاف الحاكم، والمنشقّين عن حزبه. وتحت ضغط المعارضة، ومواجهة خسارة أغلبيّته البرلمانية، انتقد خان خصومه بأسلوب شعبوي نموذجي واصفاً إيّاهم بأنّهم أعداء للشعب، وخونة بانتقالهم من معسكر إلى آخر، وأنّهم “لصوص” و”جرذان”. أعلن الجيش نيّته البقاء على الحياد، لكنّ خان سخر علناً من حياده المزعوم بوصفه خيانة (على حدّ قوله: “الحيوانات فقط محايدة”).
وفي محاولة أخيرة لإنقاذ حزبه من الانقسام، طلبت حكومة خان من المحكمة العليا منع أعضاء البرلمان المنسحبين من أحزابهم تولّي مناصب عامّة مدى الحياة. المحكمة العليا لم تبتّ القضية. ومع تخلّي الجنرالات عنه، ورفض القضاة الاستجابة له، انتقل خان اليائس إلى مناورة شعبية أخرى معروفة، متّهماً المعارضة بالتواطؤ مع “قوة أجنبية” لعزله من منصبه. زعم خان، وهو يلوّح بكتاب أبيض في تجمّع حاشد لمؤيّديه عشيّة التصويت بحجب الثقة، أنّ لديه دليلاً موثّقاً على أنّ حكومة أجنبية هدّدته بشكل مباشر بسبب اتّباعه سياسة خارجية مستقلّة. وفي وقت لاحق، صعّد الموقف باتّهام البيت الأبيض، مستشهداً أمام قادة حزبه ببرقيّة سفير باكستان لدى الولايات المتحدة الذي ذكر فيها أنّ دونالد لو (Donald Lu)، مساعد وزير الخارجية الأميركي لمكتب شؤون جنوب ووسط آسيا، حذّره من عواقب وخيمة إذا بقي خان في السلطة.
هل تدخلت واشنطن؟
الأرجح، وفقاً لأحد مساعديه المقرّبين، أنّ واشنطن سئمت من معاداة خان لسياساتها، وخاصة ميله نحو روسيا (في غزوها لأوكرانيا – المترجم)، ومن رفضه السماح بإنشاء قواعد للطائرات بدون طيّار الأميركية على الأراضي الباكستانية.
لطالما استعمل خان خطابه المناهض للولايات المتحدة، لغايات شعبوية، فهو يصوّر نفسه على أنّه باكستاني حقيقي، ويسخر من خصومه على أنّهم “عبيد لأميركا”. وعلى الرغم من أنّ خان كانت تربطه علاقة ودّيّة مع الرئيس دونالد ترامب، إلا أنّه استاء من كون الرئيس جو بايدن لم يتّصل به أبداً بعد تولّيه منصبه في كانون الثاني 2021. لقد أدّت مزاعمه الغريبة عن”المؤامرة” إلى تعميق حالة البرود الدبلوماسي في العلاقات الثنائية مع واشنطن التي أعقبت الانسحاب الأميركي من أفغانستان.
لكن لا يمكن لموقف خان المناهض لأميركا أن يغيّر الأمور في مجلس النواب الباكستاني، حيث انهار تحالفه بسبب الانشقاقات الرئيسية. وأطاحت المعارضة أخيراً بخان، واستبدلت به شهباز شريف، رئيس حزب الرابطة الإسلامية الباكستانية – جناح نواز، على رأس ائتلاف واسع النطاق لا يضمّ فقط حزب الرابطة بل وحزب الشعب الباكستاني أيضاً (وهو حزب يسار الوسط الذي كانت له عدّة فترات في السلطة في العقود الأخيرة) وعدد من المجموعات السياسية الأصغر. وبدلاً من الطعن في التصويت، استقال خان وحلفاؤه المتبقّون من البرلمان. ومنذ ذلك الحين، حثّ أنصاره على معارضة “الحكومة المستوردة” من خلال الاحتجاجات، وهو ما زاد احتمال استمرار الاضطرابات السياسية في البلاد. يتّهم أنصار خان القضاء والجيش بالإطاحة به، وهو ما دفع الجيش إلى رصّ صفوفه، ورفضه علناً مزاعم خان بالتآمر عليه.
سراب ديمقراطيّ؟
تتميزّ المحكمة العليا الباكستانية بسجلّ متقلّب، بما في ذلك عادة إضفاء الشرعية على الانقلابات العسكرية. لكنّ قرارها الأخير بدعم الدستور يبدو انتصاراً لسيادة القانون في باكستان. ونجاح المعارضة في خلع خان كان فوزاً ديمقراطياً نادراً في بلد ليس غريباً عن الانتكاسات والانهيارات الديمقراطية. ظاهرياً في الأقلّ، يمثّل رحيل خان نهاية النظام العسكري الهجين، وهو الموضع الذي يقع في منتصف الطريق بين الديمقراطية والديكتاتورية بحيث يحكم الجيش خلف واجهة مدنية رقيقة منذ عام 2018.
ويواجه رئيس الحكومة الجديد شهباز شريف تحدّيات صعبة، ولا سيّما إحياء الاقتصاد الباكستاني المتعثّر، وهي مهمّة ستزداد صعوبة بسبب طبيعة تنازع السلطة في الحكومات الائتلافية. ومن المرجّح أن تكون علاقته بالجيش أقلّ توتّراً من علاقة شقيقه الأكبر، نواز، الذي كان أكثر حزماً في ممارسة سلطته الدستورية على الجيش خلال حقبة تولّيه رئاسة الوزراء بين عامَيْ 2013 و2017. فالشقيق الأصغر (مولود عام 1951) يعتقد بضرورة مشاركة الجيش في الحكم.
حتى بعد عزل خان، لن تتغيّر العلاقات المدنية العسكرية الباكستانية المنحرفة بشكل دائم. لم يكن ما يُسمّى بحياد الجيش خلال هذه الأزمة السياسية حياداً على الإطلاق، بل موقفاً منحازاً إلى المعارضة. كانت الدفعة العسكرية الحاسمة في اللحظة الأخيرة هي التي أقنعت خان بأنّ وقته قد انتهى. لقد أوصلته عضلات الجيش، وليس أصوات المقترعين، إلى السلطة، وهي التي أطاحت به.
إقرأ أيضاً: باكستان: أيّ ثمن يدفعه عمران خان؟
الدرس المستفاد من كارثة النظام الهجين واضح: لقد أدّى تدخّل الجيش في العمليات السياسية والقضائية إلى إثارة عدم الاستقرار، وإلى تقويض سيادة القانون، وإيقاف تطوير المؤسّسات السياسية المستقلّة القادرة على حكم مجتمع متعدّد الأعراق. وعلى الرغم من أنّ الجيش أشار إلى نيّته الابتعاد عن السياسة، إلا أنّ العادات القديمة لا تموت بسهولة. ومن المرجّح الآن أن يحتلّ الجيش مقعداً خلفيّاً، ويسمح للحكومة المدنية بمعالجة الأزمة الاقتصادية. وسيساعد في تطبيع العلاقات الثنائية المهمّة لباكستان، بما في ذلك إصلاح العلاقات مع الولايات المتحدة، والمخاوف الصينية القديمة بشأن الفوضى في باكستان من خلال إحياء المشاريع الاقتصادية الرئيسية التي توقّفت في عهد خان. لكن لا ينبغي أن يكون هناك شكّ في أنّ الجنرالات سيستمرّون في الهيمنة على السياستين الداخلية والخارجية لباكستان، وسيكونون مستعدّين للتدخّل إذا قرّروا أنّ السياسيّين ليسوا على قدر المهمّة الموكَلة إليهم.
لقراءة النص الأصلي: إضغط هنا