حين هتف الشابّ خالد: يسقط تشي جيفارا

مدة القراءة 6 د

في عام 1962 استقلّت الجزائر، وفي عام 2022 احتفلت بالعيد الستّين للاستقلال.

جاء الاحتفال بنهاية العقد السادس للاستقلال، رائعاً ومهيباً. فلقد شهد الجزائريون أضخم عرض عسكري في تاريخ البلاد، كما شاهد كبار الضيوف من العرب والأفارقة والأوروبيّين معالم جيش قويّ، وشعب فخور بتاريخه.

واجهت الجزائر المعاصرة موجة مروّعة من الإرهاب استمرّت عقداً كاملاً، وتُسمّى بـ”عشريّة الدم”، وهي العشريّة السوداء التي راح ضحيّتها قرابة ربع مليون جزائري

ثورة الـ130 عاماً

ثمّة عبارة شائعة في اللغة الاجتماعية: “لقد ثرتُ فيه ثورة جزائرية”. قال لي الرئيس الجزائري أحمد بن بلّه الذي كان أوّل رئيس للجزائر بعد الاستقلال، والذي التقيته في أبوظبي عام 2003: “إنّ الجزائريّ إذا غضب يقول لك: “أطلع على الجبل”.. أي “سأعمل ثورة”، ولو كان وحده في أعلى الجبل، فإنّه لا ينزل إلّا إذا مات!”.

لقد تبدّت هذه الطبيعة الثورية في قوّة الثورة ضدّ الاحتلال الفرنسي، التي امتدّت 130 عاماً، واستشهد خلالها أكثر من سبعة ملايين جزائري.

في أثناء تلك الثورة المجيدة تشكّل مفهوم “الوطنية الجزائرية”. قام قادة الكفاح ضدّ الاستعمار، كما قام الجزائريون الذين درسوا في المدارس الفرنسية، ولم تتمّ مساواتهم بالفرنسيّين، بتطوير المشروع الوطني، وخوض حرب الاستقلال. ولقد امتدّت الفكرة إلى أن شكّل كبار الثوّار “جبهة التحرير الجزائرية” عام 1954، لتنطلق الثورة الجزائرية التي حقّقت الاستقلال قبل 60 عاماً.

الثورة التي لم تحدث

واجهت الجزائر المعاصرة موجة مروّعة من الإرهاب استمرّت عقداً كاملاً، وتُسمّى بـ”عشريّة الدم”، وهي العشريّة السوداء التي راح ضحيّتها قرابة ربع مليون جزائري.

نجحت الدولة الجزائرية في القضاء على الإرهاب واستعادة القوّة، وشهد عصر الرئيس عبد العزيز بوتفليقة استقراراً كبيراً، بعد أحداث سابقة طال فيها الاغتيال الرئيس محمد بوضياف وهو يلقي خطاباً رئاسياً وسط قادة البلاد.

ولمّا وقعت أحداث ما سُمّي بالربيع العربي عام 2011، تطلّع بعض المتطرّفين إلى العودة من جديد، وراج الحديث عن “الثورة الجزائرية المقبلة”.

في بداية عام 2011 قالت دوريّة “فورين بوليسي”: “الجزائر بعد تونس، إنّها الثورة التالية”. ولمّا لم تقع ثورة في الجزائر انتشرت عناوين “إفلاس الجزائر” في الإعلام الغربي. وفي عام 2016 قالت مجلّة “إيكونوميست” إنّ إفلاس الجزائر مقبل لا محالة، وإنّه سيحدث في غضون سنوات. وصدر تقرير عن المعهد الملكي للشؤون الدولية في بريطانيا “تشاتام هاوس” يقول إنّ الجزائر لن تستطيع تصدير النفط بعد عام 2023، وإنّها سوف تفقد خلال سنوات قليلة لقب “الدولة المصدِّرة للنفط”، وسيصبح من بين ألقابها “الدولة المستوردة للنفط”.

كان احتياطي النقد الأجنبي في الجزائر يتراجع بالفعل مع تدهور أسعار النفط. وبعدما كان الاحتياطي عام 2014 نحو 180 مليار دولار، أصبح عام 2019 أقلّ من 90 مليار دولار، وحيث إنّ النفط والغاز يشكّلان 95% من صادرات الجزائر كان الخطر يتمدّد سريعاً باتّجاه البلاد.

كان الفساد هو عنوان الجزائر في نهايات عصر الرئيس بوتفليقة. وحسب الإعلام الجزائري، فقد بلغت قيمة الرشوة في قضية شركتَيْ النفط “سوناطراك وإيني” نحو ربع مليار دولار

عصر الرئيس تبون

كان الفساد هو عنوان الجزائر في نهايات عصر الرئيس بوتفليقة. وحسب الإعلام الجزائري، فقد بلغت قيمة الرشوة في قضية شركتَيْ النفط “سوناطراك وإيني” نحو ربع مليار دولار.

يقدّر الأكاديمي الجزائري الهواري عدي، أستاذ علم الاجتماع في جامعة ليون الفرنسية، إجمالي دخل الجزائر من عام 2002 حتى نهاية حكم الرئيس بوتفليقة عام 2019 بأكثر من 1 تريليون دولار، وأنّ 200 مليار دولار منها كانت فساداً صريحاً وسرقة واضحة.

جرى اتّهام الرئيس عبد العزيز بوتفليقة نفسه بالتواطؤ على الفساد، لكنّ آخرين اتّهموا شقيقه الأصغر سعيد بإدارة الفساد. قاد سعيد بوتفليقة انقلاباً عائلياً على السلطة عام 2014 بعد مرض الرئيس، وقام هو بالإدارة الرسمية للفساد.

في ربيع عام 2019 أطاح الشعب والجيش بآل بوتفليقة، وأصبح الرئيس عبد المجيد تبون رئيساً للجزائر. بدأ الاقتصاد الجزائري بالحركة إلى الأمام والتنوّع، وانطلق جيل جديد من الشركات الناشئة والمشروعات الجديدة. وقد أدّت حرب أوكرانيا وصعود أسعار الغاز والنفط إلى زيادة هائلة في إيرادات النفط والغاز الجزائرية، إذ تجاوزت نسبة الزيادة في الأشهر الخمسة الأولى من عام 2022 سبعين في المئة بعدما وصلت إلى نحو 22 مليار دولار.

كما أنّ شركات النفط الجزائرية في إفريقيا تمضي بشكل جيد هى الأخرى. ففي عام 2022 تمّ الاتفاق على تقاسم النفط الخام في منطقة كفرا في النيجر بين شركة “سوناطراك” الجزائرية ووزارة البترول النيجرية.

لقد واكبت العرض العسكري الضخم عام 2022 قرارات رئاسية بالعفو عن 15 ألف سجين، وهي تدلّ على ثقة الدولة بقدرتها على تعزيز الأمن الاقتصادي والسياسي والعسكري معاً.

الشابّ خالد.. ونهاية الأيديولوجية

إنّ جانباً كبيراً من أزمة الجزائر في ما سبق هو ما يمكن تسميته “فائض الأيديولوجيا”. كانت تسود المزايدات الثورية والمقولات التي تعود إلى منتصف القرن العشرين، من دون تطوير خطاب يواجه التحدّيات الجديدة والآمال الكبيرة.

لمّا وقعت أحداث الربيع العربي كانت النخبة الجزائرية مجمعة على أنّ الأمن أوّلاً، والاستقرار والتنمية فوق كلّ شيء، ولا يجب التورّط في موجة ثورية جديدة يقف المتطرّفون خلف قيادتها. في هذا السياق قالت الكاتبة الجزائرية الشهيرة أحلام مستغانمي: “ينبغي حلّ أزمات هذا الجيل من العاطلين عن الأحلام، وليس فقط العاطلين عن العمل.. ليس هناك ربيع عربي، بل كوارث عربية، نحن لا نريد ربيعاً ولا خريفاً ولا شتاءً.. نريد وطناً لكلّ الجزائريين بالمساواة”.

إقرأ أيضاً: لحظة أردوغان السورية… وحلب خطّ أحمر؟

لقد كان المطرب الجزائري الشابّ خالد أكثر حدّة في مواجهة دعاة الثورة الذين التحف جزء منهم برداء اليسار. قال الشابّ خالد: “لقد ارتبط الربيع العربي بالدم والقتل، وبهذه الطريقة من الدماء لم تنَل الشعوب شيئاً، بل إنّها عادت إلى الوراء”، ثمّ واصل يقول: “لا بدّ من تكسير نموذج تشي جيفارا، إنّه نموذج تخريبي للبلاد، لتمهيد الأمر للاستعمار، وأخذ الموارد والبترول. لقد فعلوا هذا في تونس وليبيا والعراق. يسقط تشي جيفارا”.

يردّد كثيرون مع أحلام مستغانمي والشابّ خالد: يسقط المتطرّفون والفاسدون، يسقط الثوريون المزيّفون.. لتحيا الجزائر.

* كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً للرئيس المصري السابق عدلي منصور.

له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.

مواضيع ذات صلة

تشدّد الرّياض: عودة عربيّة إلى نظام إقليميّ جديد؟

توحي نتائج القمّة العربية – الإسلامية بأوجه متعدّدة لوظيفة قراراتها، ولا تقتصر على محاولة فرملة اندفاعة إسرائيل العسكرية في المنطقة. صحيح أنّ القمّة شكّلت حاضنة…

الحرب الأهلية: هواجس إيقاظها بصورٍ كريهة

 اللغو اللبناني حول حظوظ البلد بارتياد آفاق حرب أهلية جديدة، ارتفع. قد يكون هذا الارتفاع على وسائل التواصل الاجتماعي سببه “شامت” بالوضع أو رافض لـ”الرفق”….

الرياض: حدثان اثنان لحلّ لبنانيّ جذريّ

في الأيّام القليلة الماضية، كانت مدينة الرياض مسرحاً لبحث جدّي وعميق وجذري لحلّ أزمات لبنان الأكثر جوهرية، من دون علمه، ولا علم الباحثين. قسمٌ منه…

الحزب بعد الحرب: قليل من “العسكرة” وكثير من السياسة

هل انتهى الحزب؟ وإذا كان هذا صحيحاً، فما هو شكل اليوم التالي؟ وما هي الآثار السياسية المباشرة لهذه المقولة، وكذلك على المدى المنظور؟ وما هو…