في عام 1955 اقترح الرئيس الأميركي الجنرال دوايت آيزنهاور على الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف مشروع “الفضاء المفتوح”. بموجب هذا المشروع يُسمح للطائرات العسكرية التجسّسيّة لكلّ من الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي التحليق الحرّ في فضاء الدولة الأخرى للتأكّد من أنّ القواعد العسكرية ليست في حالة تأهّب لشنّ هجوم على الآخر. يومذاك رفض خروتشوف العرض بحجّة أنّه يمنح الولايات المتحدة حقّ التجسّس على الاتحاد السوفياتي.
تغيّر هذا الموقف بعد سقوط جدار برلين. ففي عام 1992 وقّعت موسكو وواشنطن على المعاهدة. ومنذ ذلك التاريخ تقوم طائرات التجسّس الأميركية بالتحليق في فضاء الاتحاد الروسي بموافقة الكرملين وبمعرفته. وتقوم طائرات التجسّس الروسية بالتحليق في الفضاء الأميركي بموافقة وبمعرفة واشنطن أيضاً.
تعرف الولايات المتحدة جيّداً أنّ روسيا تشغّل أقماراً صناعية تجسّسية أيضاً، إلّا أنّها ليست في مستوى كفاءة الأقمار الأميركية الإلكترونية الحديثة
لم تبقَ المعاهدة ثنائية. انضمّت إليها 34 دولة أخرى. وهكذا أصبح يحقّ لأيّ من هذه الدول طلب الاطّلاع على صور التجسّس التي تلتقطها طائرات الاستطلاع، روسيّة كانت أو أميركية، مقابل فتح أجوائها أمام مهمّات هذه الطائرات. ومنذ ذلك الوقت قامت روسيا وأميركا بـ 1,500 رحلة استطلاع.
بين عامَيْ 2002 و2016 قامت الولايات المتحدة بـ196 رحلة، وقامت روسيا بـ71 رحلة. وكانت آخِرتها في شهر تشرين الأوّل من عام 2019.
بموجب نصّ المعاهدة فإنّ على كلّ من موسكو وواشنطن أن تبلِّغ الطرف الآخر مسبقاً وقبل 72 ساعة من انطلاق طائرة التجسّس، وعليها أيضاً أن تعلن مسبقاً أيضاً عن خطّ الطيران الذي سوف تسلكه الطائرة قبل يوم واحد على الأقلّ من انطلاقها.
ترامب ينسحب
في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب قرّرت الولايات المتحدة الانسحاب من المعاهدة. ووقّع الرئيس الأميركي على قرار الانسحاب من جانب واحد قبيل انتهاء ولايته الدستورية. حدث ذلك من دون أن يطلب موافقة وزارة الدفاع، وحتّى على الرغم من معارضة عدد من وزراء الدفاع الأميركيين السابقين. أمّا مبرّر الانسحاب فهو اتّهام روسيا بالغشّ، وذلك لأنّها أقامت سلسلة من القواعد الصاروخية المتطوّرة في مناطق لا يشملها حقّ الاستطلاع الجوّي بموجب المعاهدة، وهي المناطق الواقعة بين بولندة وليتوانيا (كاليننغراد). غير أنّ الواقع هو أنّ الولايات المتحدة لم تعد مهتمّة بالصور التي توفّرها لها طائرات التجسّس. فهي تعتمد الآن بصورة رئيسة على صور أكثر دقّة وأشدّ وضوحاً تنقلها لها الأقمار الصناعية المتطوّرة جدّاً، التي تبلغ تكاليفها مليارات من الدولارات.
تعرف الولايات المتحدة جيّداً أنّ روسيا تشغّل أقماراً صناعية تجسّسية أيضاً، إلّا أنّها ليست في مستوى كفاءة الأقمار الأميركية الإلكترونية الحديثة. لذلك لا تزال روسيا، بخلاف الولايات المتحدة، تعتمد على رحلات طائرات الاستطلاع التي تسمح بها اتفاقية 1992، والتي تمثّل مصدراً أساسيّاً لمعرفة حقيقة أوضاع القواعد الصاروخية الأميركية في الولايات المتحدة وفي أوروبا على حدٍّ سواء.
في الأساس كان الهدف من المعاهدة تجنّب القرار الخطأ، سواء من الكرملين أو من البيت الأبيض. والقرار الخطأ في هذه الحالة يعني شنّ حرب نووية استناداً إلى معلومات خاطئة. لذلك كان الهدف من فتح الأجواء أمام طائرات الاستطلاع توفير أعلى درجة من الاطمئنان الذاتي إلى أنّ الخصم لا ينوي القصف الصاروخي النووي، وأنّه ليس مستعدّاً له، وأنّ قوّاته ليست في حالة استنفار.
إقرأ أيضاً: بايدن وبوتين: حافّة الهاوية.. التي “زحلت”
من هنا يُعيد إلغاء هذه المعاهدة، بعد انسحاب الاتحاد الروسي ردّاً على الانسحاب الأميركي، العلاقات الأميركية – الروسية إلى ما كانت عليه قبل عام 1992. وهو ما يعني أنّ اتّخاذ القرار الخطأ أصبح ممكناً، وأنّ عدم تجنّبه يشكّل قنبلة موقوتة تهدّد العالم كلّه. يضاعف من هذه الاحتمالات الخطيرة توتّر العلاقات بين روسيا الرئيس بوتين وأميركا الرئيس بايدن بسبب غزو أوكرانيا. وهو توتّر كافٍ وحده لأن يضع العلاقات الأميركية – الروسية على كفّ العفريت النوويّ!!