توماس فريدمان (Thomas Freidman) – The New York Times
بينما يمضي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الخطّة “ب”، وهي عملية عسكرية واسعة النطاق يحاول من خلالها الاستيلاء على جزء صغير من شرق أوكرانيا على الأقلّ، لتبرير حربه الفاسدة، فكّرت: من يمكن أن يقدّم له أفضل نصيحة الآن؟ واستقرّ رأيي على أحد أبرز مدرّسي الاستراتيجية الكبرى في أميركا والأستاذ المتميّز في التحليل العسكري في كلية الدراسات العليا البحرية الأميركية (U.S. Naval Postgraduate School) جون أركيلا (John Arquilla)، الذي تقاعد أخيراً. عندما اتصلت بأركيلا، وسألته عمّا سيقوله لبوتين اليوم، لم يتردّد: “كنت سأقول له: إصنع السلام، أيّها الأحمق”.
يُعرف هذا أيضاً بالقاعدة الأولى للحُفَر: “عندما تكون عالقاً في حفرة، عليك أن تبدأ بالتوقّف عن الحفر”.
أركيلا: “كلّما طال القتال، زادت صلابة المقاومة الأوكرانية، بفضل أساليب الحرب التي يقودونها، مع تفاقم خطر التصعيد”. لكنّ بوتين أخضع المجتمع المدني الروسي. والجيش الروسي
لم يلتقط أركيلا عبارته من فراغ. فبعد إنزال الحلفاء D-Day في نورماندي في 6 حزيران 1944، خلال الحرب العالمية الثانية، سرعان ما أصبح واضحاً أنّ الألمان لن يتمكّنوا من احتواء رأس الجسر الذي أقامه الحلفاء على الشاطئ. لذلك بعد فشل الهجوم الألماني المضادّ بالقرب من كاين (Caen) في 1 تموز، قام القائد الألماني الأعلى على تلك الجبهة، المارشال غيرد فون روندشتيد (Gerd von Rundstedt)، بالاتصال ببرلين وإبلاغ رئيس أركان الجيش فيلهلم كيتل (Wilhelm Keitel)، بالموقف العسكري، فسأله كيتل بعد ذلك: “ماذا يجب علينا نحن نفعل؟”، أجاب فون روندشتيد: “اصنعوا السلام، أيها الحمقى! ماذا يمكنك أن تفعل غير ذلك؟”.
في اليوم التالي، أُزيح فون روندشتيد عن منصبه، على عكس ما فعله بوتين للتوّ، حين استحضر جنرالاً كبيراً جديداً، سبق له أن ساعد في سحق حركة المعارضة في سوريا بوحشيّة ومن دون قيود، وطلب منه إدارة المرحلة الثانية من حربه في أوكرانيا. لم ينجح هذا الأمر مع الألمان، ومن دون إطلاق أيّ تنبّؤات، أوضح أركيلا سبب اعتقاده أنّ جيش بوتين، أيضاً، يمكن أن يواجه مقاومة شديدة من الأوكرانيين الذين يعانون نقصاً في القوّة والعتاد في هذه المرحلة الجديدة.
وقال أركيلا: “يتعلّق الأمر بكلّ ما هو جديد في هذه الحرب الأوكرانية الروسية. من نواحٍ كثيرة. هذه الحرب هي ما يعادل “الحرب الأهلية الإسبانية” ما بين عامَيْ 1936 و1939، لكن في عصرنا. في تلك الحرب، جرى اختبر الألمان كثير من الأسلحة، مثل قاذفات العمق شتوكا (Stuka)، ودبابات البانزر (Panzer) ، وتعلّم الحلفاء منها أيضاً قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية. يحدث الشيء نفسه في أوكرانيا عندما يتعلّق الأمر بالجيل الجديد من الحروب”.
هذه هي حروب المستقبل
نشر أركيلا أخيراً كتاباً عن حروب المستقبل: “الحرب الخاطفة: التحدّي الجديد للحرب الإلكترونية”(Bitskrieg: The New Challenge of Cyberwarfare) . وأوضح قائلاً: “في ذلك الكتاب، أوجزت القواعد الثلاث الجديدة للحرب، والتي أرى أنّ الأوكرانيين برعوا فيها كلّها”.
أوّلاً: المجموعات الصغيرة والكثيرة تتغلّب على المجموعات الكبيرة والثقيلة (many and small beats large and heavy). يعمل الأوكرانيون في وحدات صغيرة مزوّدة بأسلحة ذكية، وهي قادرة على تعطيل تشكيلات أكبر بكثير، ومهاجمة طائرات هليكوبتر صاخبة وبطيئة الحركة، وما شابه ذلك. لذا على الرغم من أنّ الروس يفوقونهم عدداً، فإنّ الأوكرانيين لديهم الكثير من وحدات العمل، التي عادة ما يراوح حجمها بين 8 و10 جنود. هذه الوحدات الأوكرانية الصغيرة بأسلحة ذكية دقيقة التوجيه، مثل الطائرات القاتلة بدون طيار والأسلحة المضادّة للطائرات والأسلحة الخفيفة المضادّة للدبابات، يمكنها أن تقضي على وحدات الدبابات الروسية الأكبر والأكثر تسليحاً.
ثانياً: الرصد أقوى من الحشود” (finding always beats flanking). فإذا تمكّنت من تحديد موقع العدوّ أوّلاً، عندها يمكنك القضاء عليه. خصوصاً إذا كان العدو مكوّناً من عدد قليل من الوحدات الكبيرة، مثل قافلة بطول 40 ميلاً من الدبابات وناقلات الجند المدرعة. حينها تتفوّق عليها بوحداتك الصغيرة، من دون الاضطرار إلى تطويقها بقوة متساوية.
هنا سألت أركيلا: لماذا الأوكرانيون جيدون في البحث؟
فأجاب: “أفترض أنّهم يتلقّون بعض المساعدة الاستطلاعية من الناتو”. وأضاف: “يستفيد الأوكرانيون بشكل جيّد جدّاً من الطائرات الصغيرة بدون طيار، وخاصة الطائرات التركية، التي تعتبر هائلة. لكنّ أجهزة الاستشعار البشرية، فيلق المراقبين الأوكرانيين غير الرسمي، هو الذي يدمّر الروس. يمكن للجدّات مع أجهزة هواتف ذكية أن تتفوّق على الأقمار الصناعية. يتكوّن فيلق المراقبين الأوكرانيين من الأطفال وأيّ شخص آخر لديه هاتف ذكي. كانوا يزوّدون القوات الأوكرانية بالأماكن التي توجد فيها الوحدات الروسية، وأين تتحرّك. ولذا تمتلك القوات الأوكرانية هذه الميزة الكبيرة في العثور على الروس في هذا البلد الكبير، وهذا يعطي وحداتهم الصغيرة معلومات استخباراتية قابلة للتنفيذ في الوقت الحقيقي.
أركيلا: أحد أسباب مقتل عدد من الجنرالات الروس هو أنّه على المستوى التكتيكي ليس لديهم أشخاص مؤهّلون لاتخاذ تلك القرارات السريعة في معركة بالأسلحة النارية
ثالثاً: أمّا القاعدة الأخيرة في حرب العصر الجديد في أوكرانيا، فهي أنّ “الهجمات المتكاثرة على العدو تتغلّب على العدد الكبير لجنوده” (swarming always beats surging). وأوضح أركيلا: “لم تعد الحرب لعبة أرقام وحسب. لا تحتاج إلى أعداد كبيرة لمهاجمة الخصم المزوّد بالكثير من الأسلحة الذكية الصغيرة. أنا متأكّد من أنّك شاهدت بعض مقاطع الفيديو لهذه الدبابات والأعمدة الروسية، حين تُضرب فجأة دبابة واحدة في المقدّمة ثمّ أخرى في الخلف، ولذا لا يستطيع الروس المناورة، ثمّ تُختار الأهداف بعد ذلك”.
لكن لأنّ هذه هي المرحلة التالية من الحرب، والروس ليسوا أغبياء، فمن المؤكّد أنّهم سيتكيّفون في المرحلة الثانية، أليس كذلك؟
يجيب أركيلا بأنّ الروس سيستمرّون في استخدام بعض القصف المكثّف، “وسيكونون أقلّ تحفّظاً في هذا الشأن في شرق أوكرانيا ممّا كانوا عليه في مناطق الغرب. لكنّ الركام يجعل الغزو أكثر صعوبة. تذكّر ستالينغراد. قصف النازيون ستالينغراد حتى أرجعوها إلى العصر الحجري في الحرب العالمية الثانية، لكنّهم اضطرّوا بعد ذلك إلى محاولة التحرّك عبر الأنقاض في وحدات صغيرة للسيطرة عليها، ولم يتمكّنوا من ذلك”.
الروس يتكيّفون بسرعة
لذا ماذا عن تعديل الروس بعض التكتيكات؟
يجيب أركيلا: “أظهر الروس قدرة على التعلّم والتكيّف. ففي حرب الشتاء الأولى ضدّ الفنلنديّين، من عام 1939 إلى عام 1940، حدث الأمر نفسه لهم عندما غزوا فنلندا للمرّة الأولى. واجههم الفنلنديون باستخدام تكتيكات الوحدات الصغيرة هذه. ثمّ تراجع الروس، وأعادوا تنظيم أنفسهم، ثمّ رجعوا بطريقة أكثر ذكاءً، وفي النهاية تغلّبوا على الخصم. ما أفهمه هو أنّ الروس قاموا بالفعل بتنشيط المزيد من وحدات المشاة البحرية الخاصّة بهم، التي تُستخدم للعمل في وحدات أصغر. لهذا توقّع أن يكونوا أكثر اعتماداً على المشاة، وأقلّ اعتماداً على الدبابات، في المرحلة التالية”.
مع ذلك، أضاف أركيلا، يجب أن يتمتّع الأوكرانيون بميزة الاستكشاف المبكر لموقع العدوّ، وقد اعتادوا بالفعل العمل في هذه الوحدات الصغيرة جدّاً. الروس أكثر مركزية في قراراتهم الميدانية. أحد أسباب مقتل عدد من الجنرالات الروس هو أنّه على المستوى التكتيكي ليس لديهم أشخاص مؤهّلون لاتخاذ تلك القرارات السريعة في معركة بالأسلحة النارية. فقط الجنرالات من يمكنهم ذلك. لذا كان عليهم النزول بالقرب من الجبهة والقيام بأمور يقوم بها الملازم والرقيب في الجيش الأميركي بشكل روتيني.
أحد الجوانب الأكثر إثارة للاهتمام في الصراع في أوكرانيا، هو النقص الواضح في استعمال الحرب الإلكترونية من طرف روسيا. أوضح أركيلا أنّ “الروس استخدموا أدوات هجومية قائمة على الفضاء الإلكتروني لتعطيل القيادة والسيطرة الأوكرانيّتين، لكن لم يكن لها تأثير إجمالي كبير بسبب العمليات اللامركزية جدّاً لقوات الدفاع النظامية وللميليشيات الأوكرانية. في الوقت نفسه، يبدو أنّ الروس يكرهون شنّ هجوم إلكتروني كبير ضدّ البنية التحتية في الولايات المتحدة، وضدّ دول الناتو الأخرى التي تساعد أوكرانيا، خوفاً من أن يؤدّي القيام بذلك الآن إلى تمكين الناتو من التعرّف على الأدوات الإلكترونية الأكثر تقدّماً في روسيا وبناء الدفاعات ضدّها. تحتاج روسيا إلى إنقاذ أسلحتها الإلكترونية من أجل حرب كبيرة مع الغرب”. لذلك لاحظ أركيلا: “ربما عندما يتعلّق الأمر بالحرب الإلكترونية الاستراتيجية، فإنّ احتمال مواجهة الاضطراب المتبادل المؤكّد (mutual assured disruption) من جميع الجوانب قد ينتج في الواقع نوعاً من الردع الإلكتروني”.
يتابع أركيلا: “في ما يتعلّق بالتفوّق الجوّي الروسي المتبجّح، لقد رأينا بالفعل مدى ضعف طائراتهم ومروحيّاتهم أمام صواريخ ستينغر. هذا لن يتغيّر في المرحلة التالية من الحرب”.
باختصار: “أنا لا أقول إنّ الروس سيُطردون من شرق أوكرانيا. أحاول الإجابة على السؤال: لماذا كان أداء الأوكرانيين جيّداً جداً؟ وهذا لأنّهم طبّقوا كلّ هذه القواعد الجديدة للحرب الحديثة”. ولأنّهم سيستمرّون بالتأكيد في القيام بذلك، فإنّ ذلك ينذر بجولة حرب جديدة طويلة ورهيبة ومدمّرة بشكل متبادل، حيث من غير المرجّح أن يتمكّن أيّ من الطرفين من توجيه ضربة قاضية.
إقرأ أيضاً: الشيشان لن تتكرّر.. القتلى الروس لن يهدّدوا الكرملين..
بعد ذلك من يعلم؟ ما زلت آمل أن يسعى بوتين الأحمق في نهاية المطاف إلى التوصّل إلى اتفاق قذر يحفظ ماء الوجه، يتضمّن انسحاباً روسيّاً، ونوعاً من الوضع المستقلّ للمناطق الشرقية الأكثر ولاء لروسيا في دونيتسك ولوهانسك، وعدم انضمام أوكرانيا إلى الناتو. لكنّ منح كييف ضوءاً أخضر للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي مع ضمانات أمنيّة ضدّ غزو روسي آخر.
قد يحدث ذلك قريباً. بكن بحسب أركيلا: “كلّما طال القتال، زادت صلابة المقاومة الأوكرانية، بفضل أساليب الحرب التي يقودونها، مع تفاقم خطر التصعيد”. لكنّ بوتين أخضع المجتمع المدني الروسي. والجيش الروسي، الذي يشعر بالحرج الشديد بسبب أدائه الضعيف نسبياً، ليس مرشّحاً لينقلب عليه. ولذا ربّما يعتقد بوتين أنّه ليس تحت ضغط الوقت للتهدئة”.
هكذا، أيّتها السيدات وأيّها السادة، تتحوّل الحروب الصغيرة إلى حروب كبيرة. قال أركيلا: “لقد أعدت أخيراً قراءة رواية “أسلحة أغسطس (The Guns of August) لباربرا توكمان (Barbara Tuchman) حول كيفية تعثّر القوى العظمى في الحرب العالمية الأولى. “إنّها رواية تحذيرية لا تزال صالحة”.
لقراءة النص الأصلي اضغط هنا