توَّجت عملية شارع ديزنكوف في قلب تل أبيب، التي تبنّتها كتائب الأقصى وقُتل فيها ثلاثة إسرائيليّين، ذروة الهجمات الفدائية التي شهدتها مدن الخطّ الأخضر. وقد توعّد رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت بـ”حرب طويلة وصعبة” ضدّ النشطاء الفلسطينيّين، وذلك بعد الكشف عن هويّة المنفّذ، وهو رعد حازم من مخيّم جنين في الضفّة الغربية.
يبدو أنّ الجانب الإسرائيلي بعد عملية تل أبيب بدأ يُسلّط الضوء على “تحالف ميداني” بين حركة الجهاد الإسلامي وكتائب الأقصى التابعة لحركة فتح، مقرّه العمليّاتيّ في مخيّم جنين، وبدأ يخطّط لضربه عبر اجتياح مخيّم جنين. بدورها أرسلت المقاومة في غزّة إلى الإسرائيليين عبر وسطاء رسالة مفادها أنّ “أيّ اجتياح لمخيّم جنين خطّ أحمر”.
من جهتها، حذّرت أجهزة الأمن الإسرائيلية من فرض إغلاق شامل في الضفة الغربية المحتلّة أو إلغاء ما تصفه حكومة الاحتلال بـ”التسهيلات” الممنوحة للفلسطينيين في الضفة وغزة خلال شهر رمضان في أعقاب عملية إطلاق النار في تل أبيب وسلسلة العمليات الأخيرة. وبحسب التقديرات الأمنيّة الإسرائيلية فإنّ “إلغاء التسهيلات وفرض العقوبات الجماعية يضرّان بسبل العيش ويخلقان اضطرابات وديناميكيّات يمكن أن تشعل الأوضاع في القدس، وقد يدفعان المنظمات الفلسطينية إلى أن تلقي بثقلها التنظيمي وإطلاق المزيد من العمليات ضدّ إسرائيل من الضفة وغزة”.
بقدر ما يحاول بينيت إيجاد الإصبع الناقص لسيلمان كي ينجو لدورة أخرى ويصل الى آب موعد نهاية إجازة الكنيست الصيفية، ويروِّج لاستمرار حكومته
أرسل الإسرائيليون إلى القاهرة وعمّان رسائل تُفيد بأنّ انتشار قوات عسكرية وأمنيّة بكثافة على الحواجز وفي التخوم هو عبارة عن إجراءات أمنيّة الهدف منها الحفاظ على ثبات وبقاء حكومة بينيت التي تترنّح، ومنع سقوطها، وليست من باب التصعيد العسكري المباشر أو إعادة العمل العسكري.
استقالة عيديت سليمان
كانت استقالة عضو الكنيست عن حزب “يمينا”، عيديت سيلمان، قد هزّت حكومة بينيت بإعلانها الانسحاب من الائتلاف الحكومي، وهو ما يعني فقدان الأغلبيّة في الكنيست، حيث بقيت الحكومة مدعومة بستّين عضواً من أصل 120 عضو كنيست، الأمر الذي مهّد الطريق أمام أزمة سياسية في إسرائيل مفتوحة على كلّ الاحتمالات، وأعاد خلط أوراق المشهد الداخلي. فحكومة بلا أغلبية في الكنيست وبلا شبكة أمان لا يمكنها أن تؤدّي مهامّها، وخصوصاً تقديم تشريعات وإقرار ميزانية الدولة.
هذا وقد جاءت الاستقالة مفاجئة حتى لبينيت وأركان حكومته. وعلى الرغم من أنّ السبب المباشر المُعلن لاستقالة عيديت هو المسألة الشرعية المرتبطة بالسماح بإدخال الطعام المختمر المحظور إلى المستشفيات في عيد الفصح اليهودي، بالإضافة إلى تسمية بينيت أمام وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، المناطق الفلسطينية المحتلّة بـ “الضفة الغربية” لا “يهودا والسامرة”، بحسب التسمية العبرية، إلا أنّ هذا عمل انتهازي محسوب قامت بحياكته منذ مدّة مع الرئيس السابق بنيامين نتانياهو، الذي يسعى إلى تفكيك الائتلاف الحكومي. وبرأي مواكبين فإنّها كانت تنتظر الفرصة المناسبة للقيام بذلك. وهذا ما حصل نتيجة ضغط العمليات الأخيرة. إذ أبرمت صفقة سياسية مع نتانياهو لتعيينها وزيرة للصحّة في حال عاد هذا الأخير إلى رئاسة الوزراء.
أرسل الإسرائيليون إلى القاهرة وعمّان رسائل تُفيد بأنّ انتشار قوات عسكرية وأمنيّة بكثافة على الحواجز وفي التخوم هو عبارة عن إجراءات أمنيّة
“لا قيم في استقالتها”
صحيفة “هآرتس” كانت قد هاجمت ما ورد في كتاب استقالة سيلمان الذي وجّهته إلى بينيت، وجاء فيه: “لم أعد أستطيع تحمّل المسّ بالقيم المركزية في فكري”، وكتبت “هآرتس”: “كلمات كبرى، لكن لا يوجد أيّ شيء قِيَميّ في ما فعلته سيلمان. فإنسان قيميّ لا يجرّ دولة كاملة إلى مأزق سياسي مغلق، بعد أربع جولات انتخابية. شخص قيميّ لا يبيع رفاقه في الائتلاف مقابل ضمان تعيينه في منصب وزير صحّة. شخص قيميّ لا يشقّ الطريق من أجل عودة متّهم بارتكاب جناية إلى الحكم في ذروة محاكمته، أي نتانياهو، ولا يوقّع على صفقات سياسية مع شخص كهذا”.
بقدر ما يحاول بينيت إيجاد الإصبع الناقص لسيلمان كي ينجو لدورة أخرى ويصل الى آب موعد نهاية إجازة الكنيست الصيفية، ويروِّج لاستمرار حكومته بالقول: “لقد أوقفنا تدفّق الأموال إلى حماس، ونحن نخوض حملة ضدّ التهديد الإيراني، ونكافح الجريمة في الوسط العربي”، فإنّ نتانياهو سيفعل قصارى جهده من أجل إغراء أعضاء في الائتلاف الحكومي بالانسحاب منه، من أجل الدفع نحو انتخابات خامسة ترجِّح استطلاعات الرأي أن يكون الليكود الفائز الأكبر فيها. ولم تكن التظاهرة، التي قادها نتانياهو في القدس بوجود قادة اليمين، احتجاجاً على العمليات الأخيرة، بل احتفالاً بالنصر بعد انشقاق عيديت سيلمان عن حكومة بينيت. ودعا نتانياهو أعضاء الائتلاف الحكومي عن أحزاب اليمين إلى “العودة إلى بيتهم الأيديولوجي، وإسقاط حكومة بينيت الضعيفة والعرجاء لـ”فشلها” في مواجهة موجة العمليات التي شهدتها المدن الإسرائيلية، وفي مكافحة خطرها على هويّة الدولة اليهودية”.
فيتو أميركي
لكن ثمّة معلومات عن وجود فيتو سياسي قويّ من الإدارة الأميركية، والرئيس جو بايدن تحديداً، يعارض عودة نتانياهو في أيّ حال من الأحوال، ويرفض مطلقاً من أيّ سيناريو يسمح بعودة نتانياهو إلى سدّة رئاسة الوزراء مع استبعاد خيار الرجوع أو العودة إلى انتخابات جديدة مبكرة. لذلك كان الخيار الدبلوماسي المتاح هو العمل على تمكين حكومة نفتالي بينيت من الصمود بأيّ طريقة وإطالة عمرها ولو قليلاً أو اللجوء إلى ائتلاف جديد يقوده يائير لابيد في حال الضرورة القصوى.
إقرأ أيضاً: التحريض الإسرائيلي: هاجموا الضفّة وغزّة
ما يحتاج إليه بينيت، في هذه اللحظة، هو مدّ القائمة العربية المشتركة يدها لتنقذه في الكنيست، وهذا صعب جدّاً أن يحصل من دون ضمانات تتعلّق بالمشروع السياسي اتّجاه الفلسطينيين. وما يمكن تأكيده أنّ هذه الحكومة مستمرّة لشهر ونصف على أقلّ تقدير بسبب الإجازة السنوية للكنيست. لكن يمكن للوضع الأمني أن يعجّل رحيلها، خصوصاً إذا ارتفع منسوب تظاهرات اليمين والمواجهة في القدس أو تواصلت العمليات الفدائية. ويبدو أنّ لابيد، زعيم حزب “يوجد مستقبل”، قد يكون رابحاً من هذه الأزمة، لأنّه وفقاً لاتفاق الائتلاف بينه وبين بينيت، فإنّه إذا سقطت الحكومة قبل التناوب، فسيصبح لابيد تلقائيّاً رئيس وزراء تصريف الأعمال، أي سيكون رئيس الوزراء الرابع عشر لإسرائيل، وربّما يتمكّن لابيد من التوصّل إلى اتفاق مع “القائمة العربية المشتركة” برعاية واشنطن، التي ترفض حتى الآن مدّ اليد لبينيت.