تأتي العمليات التي شُنّت داخل مدن إسرائيلية في الأسابيع الأخيرة مربِكة لكلّ السياقات الإسرائيلية والإقليمية والدولية. يزيد من غموضها الطابع الفردي لهذه العمليات. على الرغم من تضارب البيانات التي تصدر من هذا وذاك لتبنّيها. ما يُعقِّد معطيات استشراف مستقبل حجمها وتداعياتها.
على الرغم من أنّ العمليات قد تفرض حقيقة بعيدة عمّا يجري في أوكرانيا من تموضع دولي داهم وعامّ، وما يجري في فيينا وموقع إيران المقبل في المنطقة (وما استدعاه الأمر من مشاورات إقليمية لعبت إسرائيل دوراً مفصليّاً فيها)، إلا أنّ ما حصل ليس بعيداً أبداً عن حقيقة الواقع الفلسطيني وما يحدث في الداخل الإسرائيلي، خصوصاً من انسداد وتأزّم لا بدّ منطقياً أن يقودا إلى الانفجار.
على النقيض من تاريخ المقاومة الفلسطينية التي عرفناها منذ ما قبل قيام دولة إسرائيل، ورصدناها خصوصاً مع تدفّق الفصائل في الستينيّات وما بعدها، فإنّ العمليات الجديدة لا تنطلق من بيئة عقائدية
بغضّ النظر عن الاستغلال التقليدي لثعالب السياسة لهذا الحدث، سواء من الإسرائيليين، أو الفصائل الفلسطينية، أو من طهران بحيث يحمل ماء إلى طاحونتها، فإنّ حملة “الذئاب المنفردة”، إذا جاز التعبير، لا تمثّل فقط تحدّيات للحكومة الإسرائيلية المترنّحة والعقليّة الأمنيّة التي تسود المجتمع السياسي الإسرائيلي منذ عقود، بل تفرض مستجدّاً محرجاً للطرف الفلسطيني، سواء بواجهته الرسمية التي تمثّلها السلطة الفلسطينية، أو بواجهته الفصائلية التي، وإن صدر عنها التأييد للعمليات ومباركتها، إلا أنّها قد لا تحبّذ فقدان زمام المبادرة في أجنداتها ودفعها إلى الانقياد خلف ارتجال ميداني لا تمسك بمفاتيحه.
عمليات بلا جذور؟
على النقيض من تاريخ المقاومة الفلسطينية التي عرفناها منذ ما قبل قيام دولة إسرائيل، ورصدناها خصوصاً مع تدفّق الفصائل في الستينيّات وما بعدها، فإنّ العمليات الجديدة لا تنطلق من بيئة عقائدية (يسارية أو قومية أو إسلامية.. إلخ) ممنهجة ومنظّمة ولها امتداداتها العربية، وربّما الدولية كما في السبعينيّات. وليست، على ما يبدو، جزءاً من المشهد الإيراني “الممانع” حتى لو هرولت منابر طهران وامتداداتها لجني ثمارها. ولا تخضع لحسابات فصائلية يمكن التواصل معها وفهمها ويسهل بالنسبة إلى إسرائيل فكّ شيفرتها والتعامل مع عناوينها.
اللافت أنّ لكل عملية تمّ تنفيذها حيثيّات ودوافع خاصة بمنفّذيها تعكس معاناتهم الخاصة داخل المأساة الشاملة التي يعيشها الشعب الفلسطيني منذ قيام دولة إسرائيل.
صحيح أنّ “انفرادية” العمليات قد يجعلها، وفق التقييم الأمني الإسرائيلي، أعمالاً إجرامية متفرّقة، إلا أنّ إسرائيل تتقصّد تجاهل تسييس الحدث وإنكار دوافعه الحقيقية، دافعةً بردّ أمني تقليدي مفرط كما في حملتها في محافظات الضفة الغربية، أو بآخر دعائي يستنفر ميليشياتها المسلّحة. وليس تفصيلاً أن تحرص إسرائيل على “تبرئة” داعش من عملية الخضيرة وإصرارها على تكرار وتأكيد أنّ بقيّة العمليات منفردة منعزلة عن أيّ شكل منظّم.
حتى لو كان الحدث من إنتاج “ذئاب منفردة”، وحتى لو راحت إسرائيل تعامل الأمر بصفته فشلاً لأجهزتها الأمنية على منوال فشل مثيلاتها في فرنسا وبريطانيا وألمانيا وغيرها في استباق تحرّك “ذئابها”، فإنّ الحدث يفضح مرّة أخرى عجز الطرف الفلسطيني عن تحويل ما هو فرديّ إلى ظاهرة سياسية لها بيئتها الفلسطينية الحاضنة التي يمكن إدراجها داخل الجهد السياسي العامّ والموحّد.
أزمة السلطة ومنظمة التحرير وتواطؤ الفصائل الكبرى، ولا سيّما فتح وحماس، على مأسسة الانقسام البيتي وجعله بنيويّاً نهائياً بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وهو أكثر ما يظهر في خروج الإدانة التقليدية للعمليات من رام الله والدعم والتأييد التقليديين من غزّة، يُسقط المناسبة من يد “قيادة” الشعب الفلسطيني ويبدّد ثمارها ويعيدها إلى طبيعة فرديّة عرضيّة تحرّكها الانفعالات المفهومة من دون تمتّعها بالفعل السياسي الممنهج المضبوط.
ردّ الفعل “الأمني”
ولئن تتسبّب تلك العمليات بحالة هلع داخل إسرائيل وتمثّل تحدّياً أمنيّاً يتواكب مع أزمة حكومية، إلا أنّ الأمر، على أهمّيّته، يتمّ التعامل معه كما تعاملت إسرائيل مع مثيلاته سابقاً بالردّ العسكري الذي شهدت جنين فصلاً من فصوله، مع الأخذ بالاعتبار حاجة حكومة إسرائيل المتأزّمة هذه الأيام إلى الذهاب إلى أقصى مستويات الردّ الحازم، خصوصاً أنّ التأييد الفلسطيني لهذه العمليات بقي محدوداً ولم يتحوّل إلى تحرّكات عارمة شاملة، وأنّ ردّ الفعل الرسمي من رام الله وغزّة بقي ضمن المنتظر والمألوف.
مهما اشتدّت تصريحات “القادة” أو تفاقمت رتابة براغماتيّتها الحمائميّة، فإنّ الأداء الفلسطيني لا يرقى إلى مستوى الحدث الذي بدا طارئاً “مزعجاً” في يوميّات السلطتين في الضفّة والقطاع.
إقرأ أيضاً: عرب إسرائيل… بيضة القبّان!!
وبغضّ النظر عن قيمة ما يمكن استغلاله من تحوّل أميركي ظاهري عبّر عنه وزير الخارجية أنتوني بلينكن في اعتباره أنّ “الاتفاقات الإبراهيمية لا يمكن أن تكون بديلاً عن حلّ القضايا مع الفلسطينيين”، أو عن الحديث عن لقاء إسرائيلي فلسطيني محتمل ترعاه واشنطن في واشنطن، أو عن التواصل الإسرائيلي الأردني الفلسطيني الناشط خلال الأسابيع الماضية، فإنّ تخشّب العقل السياسي وغياب الإبداع الذي عرفه الحراك الفلسطيني قبل عقود، وإمعان الفصائل في انقسامها واستبعاد أيّ احتمال للوحدة الوطنية أو اعتبارها ترفاً لا ضرورة له، سيُبقي “القضية” هامشاً خامداً في أولويّات المنطقة والعالم حتى لو أيقظتها “الذئاب” من سبات.
* كاتب لبناني مقيم في لندن