لن تعود الأمور بين واشنطن ودول الخليج إلى ما كانت عليه. لكنّها لن تستمرّ طويلاً عند درجة التوتّر الحاليّة. هذه خلاصة ما يُسمع من مسؤولين خليجيّين في الرياض وأبوظبي.
بعد اللقاء بين وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن ووليّ عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد في المغرب، صرّح سفير الإمارات في واشنطن يوسف العتيبة يقول إنّ “الأمور عادت إلى مسارها الصحيح”، ولم يقُل مسارها السابق عمداً.
وما حُكي في الإعلام عن اعتذار قدّمه بلينكن، أيّاً تكن صيغته، هو إقرار أميركي بالخطأ الجسيم الذي اُرتُكب بحقّ الإمارات، حين تأخّرت واشنطن ثلاثة أسابيع للاتصال بأبوظبي التي تعرّض مطارها لقصف حوثيّ بالمسيَّرات والصواريخ.
الوعود الأميركية كثيرة، ومعسول الكلام أكثر، لكنّ كلّها مغلّفة بالشكوك، على الرغم من القناعة التامّة أن لا أميركا متهاونة في التفريط بالعلاقة بالإمارات، والسعوديّة، ولا هذه الدول “راكبة راسها” وساعية لاشتباك دائم مع واشنطن.
ذهب قرقاش إلى حدّ القول “اليوم ننظر إلى أنّ الدول تعتمد على الدولار كعملة عالمية ونعتقد أنّ هذا كان منذ الأزل، الحقيقة أنّ النظام الدولي الذي يعتمد على الدولار عمره 50 أو 60 أو 70 سنة”
ثمّة إدراك واقعي أنّ “الهموم” لم تعُد واحدة بين هذه العواصم وواشنطن بمثل ما كانته خلال الحرب الباردة أو في أعقاب سقوط الاتحاد السوفياتي، إن كان في مرحلة تفاؤل التسعينيّات الاقتصادي، أو في مرحلة الشراكة في الحرب على الإرهاب التي امتدّت من هجمات 11 أيلول حتى اندلاع الربيع العربي.
العالم يتغيّر
تغيّر العالم ومعه تغيّرت السياقات التي جعلت العلاقات الأميركية الخليجية علاقات استثنائية. هموم أميركا في مكان آخر. تبدأ من أزمة الهويّة الأميركية التي تفرز اليوم أعلى درجات الانقسام المجتمعي منذ الحرب الأهليّة، وصولاً إلى أزمة التأقلم الصعب مع انتهاء لحظة الأحاديّة الأميركية وهيمنتها على العالم، مروراً بالأزمات التي تعصف بفكرة الديمقراطية نفسها ومصداقيّة النظام الليبرالي، بعد النتائج المرعبة لحدثين كبيرين.
الأوّل هو مآلات التفكّك والفوضى التي أوصل إليها اختبار تصدير الديمقراطية إلى العراق وأفغانستان، والثاني هو الانهيار المالي والاقتصادي عام 2008 والذي لا يبدو أنّه بعيد عن التكرار اليوم في ظلّ أعلى مستويات تضخّم ومديونيّة في الاقتصاد العالمي!
المسار الصحيح الذي تحدّث عنه العتيبة، هو مسار الحوار حول المصالح والمخاطر. فلأميركا ودول الخليج الكثير من المصالح المشتركة، لكنّها لا تكفي لعلاقات مستدامة وثابتة من دون الاتفاق على تعريف المخاطر المشتركة، التي لم تعُد بديهيّة كما كانت في السابق وطوال سنوات التحالف الخليجي الأميركي. هذا ما يدور حوله أيّ حوار أميركي خليجي.
من السذاجة توصيف الأمور أنّها اختيار بين واشنطن ولاعبين آخرين أو أنّها إحلال لتحالفات مكان أخرى. في العالم المتغيّر الذي أشرت إليه، تتغيّر بنية العلاقات برمّتها وتتحوّل من علاقات متجانسة تقيمها العواصم الخليجية ضمن كتل وتحالفات سياسية وفي اتّجاه واحد، إلى علاقات هجينة وإدارة علاقات بين متناقضين أو متخاصمين ضمن شبكة معقّدة من التحالفات.
لا تسعى أبوظبي مثلاً إلى علاقة مع الصين بدلاً عن أميركا، لكنّها ستسعى لإقامة علاقات استراتيجيّة مع الاثنين. في سياق مماثل لتنويع العلاقات أجرى وليّ العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان قبل أيام اتصالاً هاتفياً بالرئيس الصيني، شي جين بينغ، بحث معه “أوجه العلاقات الثنائية المتميّزة بين البلدين وسبل تطويرها ضمن أعمال اللجنة السعودية الصينية المشتركة”، واتّفقا على “بذل المزيد من الجهد لتعزيز الشراكة والعلاقة الاستراتيجيّة بين البلدين الصديقين”.
مثل هذه الأخبار وغيرها ستزداد في السنوات المقبلة، كمؤشّرات لشكل العلاقات الدولية الجديدة والتغييرات التي تصيبها. وهذا اتّجاه ثابت لِمَن يظنّ أنّنا بإزاء نوبات غضب موضعيّة أو تعبيرات عصبيّة عن إحباطات معيّنة.
“اقتصاد أقلّ غربيّة”
في هذا السياق استوقفني ما قاله المستشار الرئاسي في دولة الإمارات، الدكتور أنور قرقاش، في “مجلس محمد بن زايد” ومفاده أنّ “الهيمنة الغربية على النظام الدولي تعيش أيّامها الأخيرة”، مشيراً إلى أنّ “ظهور القوّة الاقتصادية والتكنولوجيا من آسيا ممثّلة بالصين واليابان وكوريا الجنوبية وإندونيسيا سيغيّر الميزان الذي كان مائلاً للغرب بحيث أنّ هذا الاقتصاد أصبح أقلّ غربيّة”.
وذهب قرقاش إلى حدّ القول “اليوم ننظر إلى أنّ الدول تعتمد على الدولار كعملة عالمية ونعتقد أنّ هذا كان منذ الأزل، الحقيقة أنّ النظام الدولي الذي يعتمد على الدولار عمره 50 أو 60 أو 70 سنة، لذلك فالتغيير هو طبيعة الحياة”.
وبالفعل فقد عاد الحديث في أكثر من دولة حول العالم عن التداول بغير الدولار يكتسب معاني استراتيجيّة أكثر إلحاحاً في ضوء التغييرات في العلاقات الدولية التي أحدثها الغزو الروسي لأوكرانيا.
إقرأ أيضاً: بن سلمان يواجه بايدن: في الإعلام بعد النّفط… والدّولار؟
فالهند وروسيا تبحثان آليّة للتجارة بين نيودلهي وموسكو تعتمد العملتين الوطنيّتين، الروبية الهندية والروبل الروسي، في خطوة تحمل الكثير من الرسائل السياسية إلى القوى الغربية. وفي سياق متّصل كشفت صحيفة “وول ستريت جورنال” أنّ “السعودية تدرس قبول اليوان بدلاً من الدولار عند بيع نفطها للصين”. كما حظي خبر تجديد الاتفاقيّة الثنائية لمقايضة العملات بين الإمارات وكوريا الجنوبية بالكثير من الاهتمام والتفسيرات ذات الطابع الاستراتيجي على الرغم من أنّ الاتفاقية موقّعة عام 2013. تعكس كلّ هذه الأخبار طبيعة السجال الدائر حول العالم مع كلّ عناصر القوّة الأميركية، والتبرّم الآخذ في الاتّساع من الهيمنة الأميركية على النظام الدولي، ولا سيّما أنّها هيمنة تقترن بسلوك أميركي متردّد لا يبدو راغباً في قيادة العالم، ما يعزّز حال الفوضى والقلق ويسرّع البحث عن ترتيبات إقليمية في كلّ إقليم من أقاليم العالم لتثبيت قواعد استقرار ونفوذ مع أو من دون واشنطن.