عودة سعودية ضمن مسار إقليمي: الأهمّ.. بعد الانتخابات

مدة القراءة 8 د

ما بين لحظة خروج السعودية دبلوماسياً من لبنان على خلفيّة تصريحات جورج قرداحي، وعودة السفير السعودي وليد البخاري إلى بيروت، تُطرَح أسئلة كثيرة في كلّ النواحي والاتّجاهات عمّا تغيّر.

لا جواب واضحاً يطفو على واجهة الأحداث يتعلّق بتغيّرات جذرية أدّت إلى التراجع عن القرار، على الرغم من أنّه أُعطي طابع الاستجابة لمناشدات لبنانية ولمواقف رئيس الحكومة ومساعٍ دولية.

في الأساس لم يكن الخروج السعودي إلا في سبيل العودة، لكن وفق شروط مختلفة وتوازنات جديدة. حتى الآن لم يظهر أنّ هذه التوازنات قد تغيّرت، لكنّ هناك حراكاً سعودياً واضحاً في اتجاهات متعدّدة لا بدّ أن يكون لبنان جزءاً من انعكاساته.

جاءت الخطوة السعودية بعد تنسيق فرنسي سعودي واضح ومباشر في الملف اللبناني انطلاقاً من الاهتمام بنقطتين: الأولى تقديم المساعدات الإنسانية. والثانية الملفّ الانتخابي

تنظر السعودية إلى لبنان كحلقة من سلسلة متكاملة تبدأ في اليمن ولا تنتهي هنا. سلسلة تمرّ على خريطة عالمية واسعة فيها التوتّر السعودي الأميركي في لحظة محاولة إيرانية أميركية مشتركة للتقارب والدخول في الاتفاق النووي. لكنّ السعودية تستثمر في لحظة أخرى لإعادة صوغ مسار جديد لعلاقاتها الدولية، كما هو الحال مع فرنسا مثلاً، إذ إنّ الرياض رفضت سابقاً استقبال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بسبب سعيه الحثيث إلى التقارب مع إيران، ولم تكن السعودية موافقة على الدعم الفرنسي لحكومة حسان دياب، وكانت لديها ملاحظات كثيرة على المبادرة الفرنسية التي قدّمها ماكرون بعد تفجير 4 آب 2020. ما أحدث التغيُّر هي المحاولات الفرنسية الحثيثة لتحسين العلاقة مع السعودية، وهو ما أرادت الرياض شراءه وفقاً لمصالح مستقبلية. فحدّدت موعداً لزيارة ماكرون بعد تأجيلها لثلاث مرّات متتالية. وفي الزيارة حدّدت السعودية شروطها المتعلّقة بالوضع اللبناني، بما فيها القرارات الدولية.

توازنات سعودية جديدة

أصرّ الفرنسيون على السعوديّين في محطّات كثيرة عدم التخلّي عن لبنان وضرورة تقديم الدعم له، لكنّ السعوديّين استقرّوا على موقفهم المرتكز على وجوب أن يساعد اللبنانيون أنفسهم من الحرب الروسية الأوكرانية إلى مفاوضات فيينا.

كلّ الإشارات كانت واضحة إلى وجود محاولات لإعادة إرساء توازنات جديدة. إذ لا يمكن للسعودية أن تقف متفرّجة على المفاوضات الإيرانية الأميركية، ولا بدّ من إعادة تجميع قواها. وهذا مسار بدأ من اليمن إلى سوريا والعراق فلبنان.

اللافت أنّ الخطوة السعودية في اليمن حظيت بتأييد تركي. وهذا الالتقاء يمتدّ من اليمن إلى باكستان حيث كان التوافق السعودي التركي على تنحية عمران خان وتأييد مجيء شهباز شريف رئيساً للحكومة

لم تكن خطوة السعودية في اليمن سوى انقلاب جديد على كلّ الوقائع، والذهاب إلى مسار استراتيجي جديد يندرج في سياق تجميع العسكر. وهي المرّة الأولى التي يتمّ فيها جمع قوى الجنوب والشمال والعشائر وآل صالح. ومن شأن هذه الحركة أن تعيد التوازن إلى اليمن، وأن تجعل المجلس الرئاسي في مواجهة الحوثيين. كذلك بالنسبة إلى التغييرات التي حصلت في الائتلاف الوطني السوري المعارض. وفي السياق نفسه تندرج عودة السفير السعودي والسفراء الخليجيين إلى لبنان، ويتبدّى ذلك من خلال تجميع القوى الحليفة وتأكيد العلاقة الجيّدة مع كلّ اللبنانيين باستثناء حزب الله ورئيس الجمهورية، وهذا بحدّ ذاته مؤشّر إلى تجميع القوى.

اللافت أيضاً أنّ الخطوة السعودية في اليمن حظيت بتأييد تركي. وهذا الالتقاء يمتدّ من اليمن إلى باكستان حيث كان التوافق السعودي التركي على تنحية عمران خان وتأييد مجيء شهباز شريف رئيساً للحكومة. ويستعدّ الرئيس رجب طيب إردوغان لزيارة السعودية في عيد الفطر ولقاء الملك سلمان بن عبد العزيز ووليّ العهد محمد بن سلمان، وعقد اتفاقات اقتصادية وتجارية وعسكرية متعدّدة، وهو ما سيكون له الكثير من الانعكاسات على الوضع في المنطقة.

حقيقة المسار اللبناني

لبنانياً، تأتي الحركة السعودية بعد أربعة لقاءات سعودية فرنسية عُقدت في باريس. ثلاثة لقاءات بين أعضاء اللجنة المشتركة التي تمّ تأليفها، وتضمّ عن السعوديين المستشار في الديوان الملكي نزار العلولا، والسفير وليد البخاري ومسؤولاً في المخابرات، وعن الفرنسيين باتريك دوريل ممثّلاً الإليزيه، ومسؤولاً من الخارجية الفرنسية، ومسؤولاً من المخابرات. أمّا اللقاء الرابع فقد كان الأسبوع الفائت بين البخاري ومسؤول فرنسي، وكان ذلك قبل أيام من عودة البخاري إلى بيروت. في كلّ اللقاءات شدّد الفرنسيون على ضرورة العودة السعودية إلى لبنان وعدم تركه للفراغ ولحزب الله.

في اللقاء بين الفرنسيين والسعوديين الأخير، أصرّ الفرنسيون على ضرورة إرسال السفير السعودي وليد البخاري إلى لبنان مجدّداً ليشرف على توزيع المساعدات الإنسانية، ويواكب العملية الانتخابية أيضاً، ووعد السعوديون بدراسة هذا الأمر جدّيّاً. وهنا تقول مصادر دبلوماسية غربية إنّ عودة البخاري ستكون مؤشّراً لافتاً إلى المرحلة المقبلة، وهي تعني أنّه سيعقد لقاءات علنية وسرّية مع شخصيات سياسية متعدّدة لمواكبة الانتخابات النيابية، وهذا قد يكون مرتبطاً أيضاً بآليّة تقديم الدعم لخوضها.

لبنانياً، كانت بداية الحركة السعودية مع لقاءات في باريس عقدها مسؤول سعودي مع شخصيات لبنانية، من بينها الرئيس فؤاد السنيورة الذي اجتمع إليه في 8 آذار 2022. في اللقاء لم يقدّم المسؤول السعودي أجوبة واضحة عن إمكانية تقديم دعم للسُنّة الذين سيخوضون المعركة الانتخابية، لكن كانت هناك تأكيدات على وجوب خوض الانتخابات وعدم ترك الساحة فارغة. وتؤكّد مصادر قريبة من حلفاء السعودية في لبنان أنّه لم يصل دعم حتى الآن، لكنّ هناك إشارات إيجابية بشأن وصوله، وهذا يرتبط بالتحالفات وجدّيّتها وحسن النوايا بين الشخصيات السياسية وتغليب المصلحة السياسية العامّة على المصالح الشخصية.

 

الملفّ السنّي

جاءت الخطوة السعودية بعد تنسيق فرنسي سعودي واضح ومباشر في الملف اللبناني انطلاقاً من الاهتمام بنقطتين: الأولى تقديم المساعدات الإنسانية التي قد تصل بشكل متقطّع وتبلغ قيمتها ما يقارب 100 مليون دولار موزّعة على قطاعات مختلفة. والثانية الملفّ الانتخابي وعدم ترك الساحة السياسية فارغة، وتحديداً الساحة السنّيّة، كي لا يتمكّن حزب الله من تسجيل الكثير من الاختراقات فيها، وفق ما تؤكّد مصادر دبلوماسية غربية. وتشدّد المصادر على أنّ هناك قراءة جامعة لدى مختلف الدول المهتمّة بالشأن اللبناني مفادها أنّ الانتخابات لن تؤدّي إلى التغيير المطلوب في لبنان ولا إلى الإصلاح المنشود أو حلّ الأزمة. لكن لا بدّ من التعاطي معها كاستحقاق دستوري، ولا مجال للاستسلام للنتائج، الذي يعني تسليم البلد لحزب الله. لأنّه في الفترة المقبلة عندما يحين موعد الجلوس إلى طاولة التسوية لا بدّ من مشاركة كلّ الأفرقاء، ولذلك فالحضور في المجلس النيابي ضروري.

تفيد هذه النظرة أن لا موافقة على تسليم البلد لحزب الله وإسقاطه في يده، وضرورة استعادة التوازن السياسي، ولو بالحدّ الأدنى، من خلال محاولة منع الحزب من الحصول على أكثرية فاقعة، ولذلك يجب خوض الانتخابات بالشخصيات التقليدية القادرة على التكتّل في مواجهته.

تشير هذه التحرّكات إلى عودة الاهتمام السعودي بشكل مباشر بالملفّ اللبناني، وسط معطيات تفيد بها مصادر بأنّ السعودية تعمل في هذه المرحلة على خطّين بالنسبة إلى الوضع السياسي اللبناني. فحالياً تتعاطى مع الأمر الواقع وتدفع إلى خوض الانتخابات في محاولة لاستعادة التوازن، بينما تستعدّ أيضاً للمرحلة المقبلة عندما يحين وقت إنتاج شخصيات سياسية جديدة. وهنا تقول المصادر إنّ هذه الأسباب هي التي دفعت العديد من الشخصيات إلى العزوف عن الترشّح.

إقرأ أيضاً: التحرّكات الدبلوماسيّة في الشرق الأوسط: ضرورات أم خيارات؟

لن تتبنّى السعودية أيّ موقف علني في هذه المرحلة، على الرغم من أنّها تحفّز الجميع على المشاركة. وإنّ أيّ مساندة ستقدّمها ستكون بطريقة غير ظاهرة وغير واضحة، مع تأكيد أنّها لن تترك الساحة اللبنانية. وتقول مصادر قريبة من السعودية: “لا ينتظر منّا أحد في لبنان أن نأتي ونخوض عنه معركته أو نقول له ما يجب أن يفعل. على اللبنانيين أن يعرفوا مصلحتهم، وأن يتنازلوا عن صغائر حساباتهم، ويضعوا أمامهم هدفهم الأساسي، وهو تحقيق نتائج جدّية في الانتخابات وخدمة بعضهم بعضاً بدلاً من أن تصبّ خلافاتهم في مصلحة خصومهم. المرحلة الآن تحضيريّة، وقوامها التعاطي مع الموجود والأمر الواقع، فيما المسألة ستتغيّر في الأشهر المقبلة، ولا سيّما بعد الانتخابات النيابية والاستحقاق الرئاسي”.

مواضيع ذات صلة

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…

لبنان بين ولاية الفقيه وولاية النّبيه

فضّل “الحزب” وحدة ساحات “ولاية الفقيه”، على وحدانية الشراكة اللبنانية الوطنية. ذهب إلى غزة عبر إسناد متهوّر، فأعلن الكيان الإسرائيلي ضدّه حرباً كاملة الأوصاف. إنّه…

الأكراد في الشّرق الأوسط: “المايسترو” بهشلي برعاية إردوغان (1/2)

قال “أبو القومية التركية” المفكّر ضياء غوك ألب في عام 1920 إنّ التركي الذي لا يحبّ الأكراد ليس تركيّاً، وإنّ الكردي الذي لا يحبّ الأتراك…