في تزامن الأحداث ما يغري بربط اتفاق لبنان مع صندوق النقد الدولي، على مستوى الخبراء، بانفراجات سياسية في الإقليم يمكن أن تمتدّ إلى الساحة المحليّة، ولا سيّما التغيرات والتحالفات اليمنية في الرياض وعودة السفير السعودي وليد البخاري إلى بيروت وبيانَيْ السفارة الأميركية وبعثة الاتحاد الأوروبي المرحّبَيْن بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي. لكنّ ما هو مطلوب داخلياً لإنجاح الاتفاق مع “صندوق النقد” ليس أقلّ من “طائف اقتصادي” لا يمكن الجزم أنّ شروطه الموضوعية ناضجة.
لنضع جانباً “إغراء” السياق السياسي، ولنعد إلى السياق التقني للاتفاق مع بعثة صندوق النقد ابتداءً لتقدير حدود الممكن فيه.
يتوّج الاتفاق مباحثات تقنية لم تتوقّف حتّى حين تعطّلت جلسات مجلس الوزراء على خلفيّة مطالبة الثنائي الشيعي بتغيير المحقّق العدلي في قضية انفجار المرفأ طارق البيطار. وكان سرّ التقدّم في تلك المفاوضات اقتصارها على التقنيّين من الجانب اللبناني، وتحديداً على موظّفين في وزارة المال ومصرف لبنان، خلافاً للوفد “الائتلافي” في زمن حكومة حسان دياب الذي طغى عليه التصادم بين ممثّلي رئيس الجمهورية والأطراف الأخرى داخل الوفد. وكانت شخصية نائب رئيس الوزراء سعادة الشامي ركيزة في إدارة التوازن بين ما هو سياسي وما هو تقني، خصوصاً حين ارتفع صوت القصر الجمهوري معترضاً على “استبعاده” من المباحثات.
“الطائف الاقتصادي” المطلوب هذه المرّة أكبر بكثير من نظام “اتفاق الدوحة” الذي قاد البلاد إلى الإفلاس خلال عشر سنوات
في مجمل هذا المسار، عمد رئيس الحكومة نجيب ميقاتي إلى تكتيك ذكيّ مستفيداً من درس حكومة دياب. فبدلاً من أن يعرض خطة التعافي على مجلس الوزراء ويغرق في الانقسام حولها، سلك الطريق المعاكس، فذهب إلى صندوق النقد الدولي، ثمّ أتى إلى مجلس الوزراء ومجلس النواب باتّفاق جاهز للعرض على مجلس إدارة الصندوق يكفل للبنان الحصول على تمويل ميسّر بثلاثة مليارات دولار، ويفتح أبواباً أخرى للتمويل. أتى ميقاتي بالجزرة قبل العصا، وبات الجميع أمام ضغط تسهيل الاتفاق الناجز لئلّا يتحمّل أيّ منهم مسؤولية خسارة المليارات الثلاثة التي تعبّر عن بدء نمو الثقة الدولية والانهيار الأكبر بعد ذلك.
أهمّ شروط “الصندوق”
تكمن أهميّة الاتفاق على مستوى الخبراء في أنّه يضع الحكومة والقوى الممثَّلة في مجلس النواب أمام قائمة شروط محدّدة. ولهذه الشروط ركنان أساسيّان هما بمنزلة طابقين، أحدهما داخلي والآخر خارجي.
الطابق الداخلي يتمثّل بما يعرف بـ”الإجراءات المسبقة” (prior actions)، وهي عبارة عن مشاريع قوانين تتطلّب الإقرار في الحكومة ومجلس النواب قبل اجتماع مجلس إدارة صندوق النقد الدولي. وقد ذكرها بيان صندوق النقد الدولي تفصيلاً في ثمانية بنود، وهي:
1- إقرار الحكومة لـ “استراتيجية إعادة هيكلة البنوك” التي تعترف مسبقاً بالخسائر الكبيرة للقطاع وتعالجها، مع حماية صغار المودعين والحدّ من اللجوء إلى الموارد العامّة.
2- إقرار قانون المعالجة الطارئة للمصارف في مجلس النواب.
3- بدء عملية تقييم لأكبر 14 بنكاً، بمساعدة خارجية وبالاتفاق مع شركة دولية ذات سمعة قويّة.
4- تعديل قانون السرّيّة المصرفية لجعله متوافقاً مع المعايير الدولية لمحاربة الفساد وإزالة العوائق أمام إعادة هيكلة القطاع المصرفي والرقابة عليه.
5- إكمال التدقيق ذي الغرض الخاص على الموجودات الخارجية لمصرف لبنان.
6- إقرار الحكومة لخطة ماليّة متوسّطة المدى واستراتيجية لإعادة هيكلة الدين، لاستعادة استدامة الدين وتوفير فسحة ماليّة للإنفاق الإضافي على الشؤون الاجتماعية وإعادة الإعمار.
7- إقرار موازنة 2022 في مجلس النواب.
8- توحيد سعر الصرف، وإقرار قانون “الكابيتال كونترول”.
الإجراءات المسبقة، وأيضاً اللاحقة، لا يمكن أن تمرّ بيُسر في مجلسَيْ الوزراء والنواب إلا بتوافق سياسي كاسح للألغام، وهذا ما حرصت الرئاسات الثلاث على الإيحاء به من خلال البيان الذي أدلى به ميقاتي بعد اجتماع بعبدا الماليّ، والذي حمل موقفاً مشتركاً من رئيسي الجمهورية والحكومة، ثمّ البيان المنفصل الذي صدر عن رئيس مجلس النواب نبيه بري معلناً “جهوزيّة المجلس النيابي لمواكبة هذا الإنجاز بالعمل وبجدّيّة كبيرة لتأمين التشريعات والإصلاحات المطلوبة الضرورية، الهادفة إلى إنجاح البرنامج المدعوم من قبل صندوق النقد”.
بات الجميع أمام ضغط تسهيل الاتفاق الناجز لئلّا يتحمّل أيّ منهم مسؤولية خسارة المليارات الثلاثة التي تعبّر عن بدء نمو الثقة الدولية والانهيار الأكبر بعد ذلك
لكنّ المحكّ الفعلي لهذا التوافق لن يظهر إلا في الأفعال. وأقرب الاختبارات إقرار الموازنة وقانون الكابيتال كونترول في مجلس النواب، بالتزامن مع إقرار قانون تعديل السرّيّة المصرفية في مجلس الوزراء.
أمّا الاختبار الأكبر أمام الحكومة فهو إقرار استراتيجية إعادة هيكلة البنوك، ومشروع القانون الطارئ لمعالجة أوضاع البنوك. فهذان هما لبّ خطة التعافي الاقتصادي بنسختها المحدّثة، وما ستحمله من توزيع للخسائر واقتطاع من الودائع وقرارات كبرى في شأن إصلاح القطاع العامّ وإعادة توزيع الأعباء الضريبية وضبط المعابر الشرعية وغير الشرعية. وبنتيجتهما سيُعاد إنتاج مراكز القوى في النظام المالي وستظهر بنوك وتختفي أخرى.
الطابق الخارجيّ
أمّا الطابق الخارجي فهو “تأكيد الدعم المالي من الشركاء الدوليين”، وقد ذكره رئيس بعثة الصندوق أرنستو راميريز ريغو بهذه الحرفيّة في البيان الصحافي الذي وزّعه صندوق النقد، وهو شرط شائع في اتفاقيات البرامج التي يوقّعها، لتوفير مصادر تمويل مساندة، باعتبار أنّ التمويل الذي يقدّمه الصندوق، مهما بلغ، لا يكفي وحده لسدّ الفجوة الماليّة، خصوصاً في الفترة التي تسبق التوصّل إلى اتفاق مع حاملي “اليوروبوندز”، ولتمكين البلاد من العودة إلى أسواق الدين العالمية.
هذا يعني أنّ لبنان لن يستغني بأيّ حال عن المساعدات من دول الخليج أو من البنوك التنموية. في حالة مصر مثلاً، وهي بعيدة كلّ البعد عن السوء الذي وصل إليه لبنان، حصلت القاهرة بالتزامن مع المفاوضات الجارية حالياً مع صندوق النقد على وديعة من السعودية بخمسة مليارات دولار لدعم احتياطيات البنك المركزي المصري.
لذلك لا يكفي أيّ انفراج في التفاوض مع صندوق النقد الدولي، ولو ساندته أجواء سياسية داخلية ملائمة، من دون الطابق الخارجي.
الظروف الخارجيّة المرافقة
يصعب الركون إلى الصدفة في تفسير التزامن بين الاتفاق مع صندوق النقد والتطوّرات الخارجية المتسارعة، بدءاً من المؤشّرات المتزايدة إلى قرب التوصّل إلى اتفاق نووي، وبدء الإفراج عن الأموال الإيرانية المحتجَزة في الخارج، إلى الهدنة في اليمن ومشاورات الرياض التي مهّدت لبدء التفاوض بين الحوثيين والسلطة المعترف بها دولياً. وعلى المستوى المحلي، يتزامن ذلك مع عودة سفراء دول مجلس التعاون إلى بيروت وبيانين داعمين لاتفاق لبنان مع صندوق النقد الدولي من كلّ من السفارة الأميركية وبعثة الاتحاد الأوروبي.
يمكن التوقّف في بيان السفارة الأميركية تحديداً عند الإشادة “بالعمل الجادّ الذي قام به وفد الصندوق وفريق رئيس الحكومة”، بما تحمله من تجيير لهذا “الإنجاز” إلى ميقاتي دون سواه، لتعطي إشارة ربّما إلى ربط هذا الاتفاق بالاتجاه المستقبلي للحالة السياسية بعد الانتخابات النيابية.
لكنّ ذلك كلّه يبقى عرضةً لمصير ليس أفضل ممّا آل إليه مؤتمر “سيدر”. فالاتفاق مع صندوق النقد محفوف بالشروط المستعصية. يمكن التساؤل بالحدّ الأدنى عمّا إذا كان ممكناً المضيّ بورشة إعادة هيكلة بهذا العمق للقطاع المصرفي مع إبقاء “جمعية القرض الحسن” خارج النظام المالي الشرعي، مع علم الجميع أنّ هذه الجمعية باتت أكبر بنك في لبنان بأكثر من مئتي ألف مودع ومئة ألف مقترض على الأقلّ. إلا إذا كان المطلوب أن تصبح الدولة بسلاحين ونظامين ماليّين.
إقرأ أيضاً: الكابيتال كونترول: الحكومة تشعل سوق الدولار
حين كان الفرقاء اللبنانيون مجتمعين في الدوحة بعد أحداث 7 أيار 2008، راهن كاتب كويتي معروف بأنّه سيحلق نصف شاربه إذا توصّل هؤلاء إلى اتفاق. كانت الصورة لا توحي له بأنّه يخاطر بشاربه الأبيض الكثيف.
“الطائف الاقتصادي” المطلوب هذه المرّة أكبر بكثير من نظام “اتفاق الدوحة” الذي قاد البلاد إلى الإفلاس خلال عشر سنوات.