الكلّ في لبنان متفاجئ. البابا سيزور لبنان في حزيران المُقبل. موعد فاجأ الجميع، كنسيّين وسياسيّين، في لبنان والفاتيكان.
منذ سنوات أعلن البابا فرنسيس نيّته زيارة بلدنا. لكنّ انطلاق الاعتراضات الشعبية في 17 تشرين الأول 2019 وجائحة كورونا وتسارع الانهيار حالت دون تحقيق رغبته. اليوم قرّر. وغداً ستبدأ ورشة الإعداد للزيارة.
قبل اتّخاذ القرار كانت الآراء منقسمة في الفاتيكان: رأي دعا إلى أن تكون زيارة البابا تتويجاً لمسعىً بابويّ لإنقاذ الوضع في لبنان، أو إعلاناً لمسعى خلاصيّ أكيد. ورأي ثانٍ أراد أن تكون الزيارة دفعاً لمسار إنقاذي للبنان.
بالطبع قداسة البابا مرحَّب به في أيّ وقت. هذا أمر مفروغ منه. لكنّ توقيت زيارته ليس صائباً، كي لا نقول إنّه مخطئ، لعدّة أسباب محلّيّة وإقليمية ودوليّة.
قداسة البابا، نقدّر عالياً اهتمامك بلبنان. لكن يجب أن تعلم أنّ لبنان الذي تعرفه اندثر. قطاعاته الاقتصادية والتربوية والاستشفائية دُمّرت. سياسياً تحوّل إلى لبنانات
أوّلاً، ليست الأجواء مؤاتية على المستوى المحلّيّ لعدّة أسباب، أبرزها:
1- لا يزال لبنان في عين العاصفة. عاصفة الانهيار التي تدمّر كلّ شيء. يزداد الشعب فقراً يوماً بعد يوم. والجوع طرق كلّ الأبواب. الأمل مفقود. اليأس يسيطر. السياسيون الذين أساؤوا الإدارة ونهبوا البلاد والعباد سيمدِّدون حكمهم في الانتخابات النيابية المقبلة. “الثورة” التي أعطت أملاً لفترة، فشلت فشلاً ذريعاً. لا تزال الإصلاحات المطلوبة من المرجعيّات الدوليّة “وعوداً عرقوبيّة” من الحكومة العرقوبيّة. لذلك أيّ زيارة لا تحمل مبادرة خلاصيّة من هذا الانهيار الكارثي ستزيد الإحباط لدى اللبنانيين، بخاصة المسيحيين، مع علمنا أنّ الخلاص يبدأ من الداخل.
2- أصبح شبه مؤكَّد أنّ الانتخابات المقبلة ستُنتج أكثرية نيابية لحزب الله لسببين رئيسيَّيْن: تضعضع المعارضة، وخروج تيّار المستقبل (وليس سعد الحريري فقط) من المعركة، الأمر الذي سيعطي شرعيّة شعبيّة مزيّفة لحزب الله لأنّ مقاطعة الانتخابات ستكون قياسيّة. فهل تأتي زيارة البابا لتؤكّد شرعيّة ميليشيا مسلّحة خطفت قرار الدولة وأساءت إلى علاقات لبنان مع محيطه العربي والعالم؟ أم يلاقي الضيف الفاتيكاني البطريرك الماروني في خطابه ويدعو إلى تحرير قرار الدولة وتطبيق القرارات الدوليّة وحلّ الميليشيات وحصر السلاح بالقوى الشرعيّة اللبنانية وتحسين علاقات لبنان العربية والدوليّة…؟
3- ماذا عن طرح الحياد؟ الفاتيكان ينتظر دراسة لمعنى الحياد الذي طرحه البطريرك الماروني. فهل مدّة شهرين كافية لمثل هذه الدراسة ليصبح الحياد طرحاً فاتيكانياً أيضاً؟
4- في حزيران المقبل سيكون الفراغ سيّد الموقف. إذ سيكون العهد البائد قد أشرف على نهايته، وربّما يكون المجلس النيابي مختلفاً على النتائج، ولن تكون الحكومة العتيدة قد تشكّلت. من سابع المستحيلات أن تتشكّل خلال أسبوعين. هذا الأمر بحاجة إلى أعجوبة. وهذه الأخيرة مستحيلة أيضاً لأنّ المؤتمنين على تشكيلها ليسوا من أبناء الإيمان بلبنان لتُجترح العجائب على أيديهم. لا يؤمنون إلا بمصالحهم، خاصة أنّ الحكومة العتيدة ستكون الحكومة التي ستدير مرحلة الفراغ الرئاسي المقبل.
5- إذا كان هدف الزيارة تثبيت الحضور المسيحي في لبنان، فأعتقد أنّه في نهاية شهر حزيران المقبل سيشهد لبنان موجة هجرة جديدة، بخاصة من المسيحيين. فالعديد من العائلات تنتظر نهاية العام الدراسي للرحيل. والمئات من الشباب ينتظرون شهاداتهم الجامعية للالتحاق بجامعات أو بشركات أجنبية. وكلّهم حجزوا بطاقة تشبه تلك التي حجزها ميشال عون فيما مضى لسعد الحريري: One way ticket.
عذراً قداسة البابا. الصورة قاتمة جدّاً في لبنان. بياض ثوبك النقيّ لن يضيء ولو شمعة في الظلمة التي نعيش فيها
ثانياً، على المستوى الإقليمي لا يبدو أنّ تغييراً ما يمكن أن يحصل ويساهم في أن تحمل زيارة البابا مبادرة إنقاذيّة للبنان:
1- الاتّفاق النووي مع إيران يبدو متأخّراً. تفاؤل التصاريح منذ أسابيع بدّده الموقف العربي – الإسرائيلي ولقاءات النقب والعقبة. إضافة إلى الموقف الروسي الذي تحوّل عائقاً أمام إنجاز الاتّفاق كي لا تشرع إيران في إنتاج الغاز ويبدأ تحرّر أوروبا من الغاز الروسي.
2- عربياً لا يزال الموقف الخليجي على حاله: فلبنان بلد يحكمه حزب الله. وسيتجدّد حكمه بعد الانتخابات النيابية المقبلة كما ذكرنا.
ثالثاً، على المستوى الدولي، الظروف غير مؤاتية لمثل هذه الزيارة:
1- مع بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، بعض الدول التي كانت لا تزال تهتمّ بالشأن اللبناني، تحوّلت أنظارها عن لبنان. الهمّ الأوروبي اليوم هو “الدبّ الروسيّ” وليس “الدِبَب” اللبنانيّة الحاكمة. أمّا بالنسبة إلى الأميركي فلبنان في أسفل سلّم أولويّاته. حاول موفده “اليهودي” أن يقايض الدولة اللبنانية: المساعدات الدولية مقابل الأميال البحريّة. حتى هذه المقايضة اليوم معلّقة على حبل المصالح الأميركية – الإسرائيلية المهتزّ بسبب المفاوضات النووية الإيرانية والموقف من الغزو الروسي لأوكرانيا.
2- فرنسا، إضافة إلى همّ الخطر الروسي، منشغلة بانتخاباتها الرئاسيّة في أيار. في حزيران المقبل لن يكون رئيسها العتيد قد استقرّ في قصر الإليزيه. شهر واحد ليس كافياً لإفراغ حقائبه لأنّه سيقيم خمس سنوات قابلة للتجديد، فكيف لفتح الملفّات الدولية، ومنها الملفّ اللبناني؟!
لا تَزُرنا
قداسة البابا، نقدّر عالياً اهتمامك بلبنان. لكن يجب أن تعلم أنّ لبنان الذي تعرفه اندثر. قطاعاته الاقتصادية والتربوية والاستشفائية دُمّرت. سياسياً تحوّل إلى لبنانات. تخطّى عددها عدد الأديان والطوائف وعدد الأحزاب العشائريّة الطائفيّة. ومنذ ثلاث سنوات “فرّخ” لبنانات جديدة تخطّى عددها عدد الجمعيّات الأهليّة التي أُسِّست إثر ما سمّي بالثورة.
نقدّر عالياً اهتمامك بالإنسان في لبنان، الذي خلقه الله، كما كلّ البشر، على صورته ومثاله حرّاً، ونفخ فيه الحياة وسلّطه “على سمك البحر وعلى طير السماء…” (كما جاء في سفر التكوين). لكن يجب أن تعلم أنّ هذا الإنسان تخلّى عن حرّيّته وعن حياته وعن سلطته. اختار الانقياد بشكل أعمى للزعيم وقبِلَ أن يكون جزءاً من الميراث لابن الزعيم أو صهره أو زوجته… وتخلّى عن حياته حين صرخ “بالروح بالدم نفديك يا زعيم”. وتخلّى عن سلطته حين سلَّط الزعيم على ماضيه وحاضره ومستقبله.
الإنسان في لبنان حاول أن يثور. فوجد نفسه أسير سجون عدّة دينية وطائفية ومذهبية وحزبية وعقائدية ومناطقية… ثورته لم تحرّره. فشل وفشلت ثورته. وقبع في تلك السجون التي حوّلت لبنان إلى سجن كبير.
الإنسان في لبنان استسلم. وهذا النوع هو الأسوأ بين البشر. وقد قال فيهم الكتاب المقدّس: “هكذا لأنك فاتر، ولست بارداً ولا حارّا، أنا مزمعٌ أن اتقيّأك من فمي” (رؤ 16:3)
إقرأ أيضاً: زيارة البابا فرنسيس لبنان قائمة إلّا إذا؟
عذراً قداسة البابا. الصورة قاتمة جدّاً في لبنان. بياض ثوبك النقيّ لن يضيء ولو شمعة في الظلمة التي نعيش فيها. خوفي أن تقتل زيارتك في هذا التوقيت ما تبقّى من أمل لدى بعض اللبنانيين بخلاص ما في المستقبل. لذلك لا تزُرنا في حزيران. أجِّل زيارتك إلى موعد مناسب محلّياً وإقليمياً ودولياً.
* أستاذ في الجامعة اللبنانية