تربطني باللاعب المصري العالمي محمد صلاح وعائلته صداقة وطيدة. لهذه الصداقة اعتباراتها في آرائي ووجهات نظري، لكن بعيداً عن الصداقة، فإنّني واحدٌ ممّن أسفوا على حالة الهجوم الكبيرة التي شنّها مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي على اللاعب الكبير، عقب المباراة الأخيرة للمنتخب المصري.
المباراة والحرب
لم يحتمل المصريون هزيمة منتخب بلادهم أمام منتخب السنغال، ذلك أنّ حلم كأس العالم في نسخته المقبلة قد انتهى تماماً.
كانت الجماهير تتابع أزمة أوكرانيا، وارتفاع مستويات التضخّم في مصر والعالم. وكانت تتابع بورصة القمح والنفط من دون أخبار جيّدة قرابة أربعين يوماً. كانت الفرحة الكبرى التي يمكنها أن تغطّي على تلك المواجع المستجدّة، حيناً من الدهر، هي الوصول إلى كأس العالم. لكنّ الرياضة تحالفت مع السياسة لإضاعة الفرحة وقتل البهجة.
مصر وضعت ميزانيّتها على أساس سعر نفط يعادل نصف السعر الجديد، وكانت قد خطّطت لدعم الخبز بعدّة مليارات، لكنّها زادتْ مليارات أخرى في أعقاب الحرب، التي أثّرت أيضاً على قطاع السياحة، الذي استعاد الكثير من عافيته بعد انحسار الجائحة، فإذا به يواجه أزمة في بلديْن لهما وجود سياحي كبير على شواطئه الشرقية. يضاف إلى ذلك أنّ العديد من الموادّ الخام التي تدخل في صناعات كثيرة، أبرزها الحديد والإسمنت، يأتي من منطقة الحرب، وهو ما أدّى إلى انفلات الأسعار مع انطلاق المدافع.
جاءت مباراة السنغال التي أضاعت الحلم المصري في كأس العالم 2022، وسط الأهوال الاقتصادية العالمية للحرب الروسية الأوكرانية. وقد زاد من مساحة الغضب أنّ كأس العالم يُعقَد هذه المرّة في قطر، وربّما أراد المصريون أن يشاركوا في هذا المونديال، لأجل استعراض الشعبية في شوارع الدوحة في أثناء مباريات مصر، وإظهار حضورهم في بلد ظلّ يعمل ضدّ بلادهم عشرة أعوام كاملة.. ويزيد.
لذا كان الغضب كبيراً، ولأنّ المنتخب المصري ليس في أفضل حالاته، فقد راهنَ الجمهور على دور النجم في صناعة الأمل، ولمّا لم يحدث ذلك، اندلعت حرب “فيسبوكيّة” غطّت عدّة أيام على الحرب الأوكرانية، وكان هدفها الوحيد: محمد صلاح.
هنا نجريج.. أهلاً بكم في بسيون
كان أوّل لقاء لي مع محمد صلاح في منزله بقرية نجريج في مركز بسيون بمحافظة الغربية في دلتا مصر. دعاني والده الحاج صلاح غالي إلى حضور حفل إفطار أقامه “مو”، وكان فرصة للتعرّف أكثر على العائلة.
ما إن عرف شباب عائلتنا بلقاء صلاح، حتى طلبوا جميعاً الحضور. اصطحبت أبناء إخوتي. وحضرنا ذلك الإفطار السخيّ، وسط أهل القرية وعائلة “مو”.
كانت التغطية الإعلامية لهذا الإفطار كثيفة جدّاً، تناولنا القهوة مع “مو” في منزله، وكانت تلك فرصة ثمينة لأبناء إخوتي لالتقاط الصور مع النجم الكبير.
من المثير أنّ ابن شقيقتي الكبرى قد رأى أنّه هو نجم اللقاء، وطلب أن يتوسّطنا في صورة تذكارية، وقد علّق الإعلامي تامر أمين على الصورة ونحن نقف إلى جواره: إنّنا إزاء نجم كبير لا نعرفه، وقد حان الوقت لنعرف من هو ذلك الشاب الذي حرص محمد صلاح على التقاط الصورة معه!
مؤسّسة محمّد صلاح الخيريّة
كان جزء من الحديث في ذلك اللقاء، وفي لقاءات تالية، يتعلّق بإنشاء مؤسسة خيرية تحمل اسم محمد صلاح. وقد بدأت العمل رسمياً بعد سنوات قليلة من حفل الإفطار. لقد سعدتُ كثيراً بأن يكون أوّل تعاون لـ”مؤسسة محمد صلاح الخيرية” مع “مؤسسة المسلماني الخيرية”، وكلتا المؤسّستين انطلقتا من مركز بسيون في محافظة الغربية.
تبعد قريتي عن قرية محمد صلاح عشر دقائق، وتربطني بوالده ووالدته وأخيه نصر صداقة ومودّة.
الحاج صلاح غالي هو شخصية مهذّبة وطيّبة، وهو شخص جادّ، لم يركن إلى شهرة ابنه أو نجاحاته، بل ظلّ يمارس عمله، ونشاطاته، وواصل علاقاته الحسنة مع الجميع، وكأنَّ شيئاً لم يتغيّر. وتحظى والدة محمد صلاح بمكانة خاصة لدى الابن النجم، ولدى كلّ أهل القرية ومَن يعرفونها. إنّها سيّدة فاضلة، بالغة الطيبة والهدوء. تبدو باستمرار شخصيّة راضيةً مبتسمة وودودة، حتّى إنّها تدعو لكلّ مَن يصافحها، وتتمنّى له الأمنيات الطيّبة. أمّا نصر صلاح فهو أقرب إلى أخيه، في الشكل والمضمون.
حفل زفاف وسط الجائحة
أقامت عائلة محمد صلاح حفل زفاف بهيج لشقيقه نصر في مكان هادئ بإحدى ضواحي القاهرة، وقد حضره الأهل والأصدقاء.
أُقيم الحفل في زمن الجائحة بعد انتهاء فترة الحظر. حضر محمد صلاح من البداية إلى النهاية، وقد فوجئت باندماجه مع الحضور مصفّقاً ومغنّياً، ومحمولاً على الأعناق احتفاءً بشقيقه وبالمناسبة السعيدة.
نشرت الصحف بعد ذلك الحفل نبأ إصابة محمد صلاح بفيروس كورونا. لم يُصب أحد في ذلك الحفل، وقد تعافى اللاعب العالمي بعد أيام قليلة، وكانت فترة الحجر التي قضاها خبراً رئيسياً في صحافة العالم.
يجب أن يعمل مشاهير الفن والرياضة على أن يكونوا “دعاةً ثقافيّين” للشباب، وأن يكونوا سفراء للكتاب
إنّ حضور محمد صلاح للاحتفاء بأخيه على هذا النحو، والمخاطرة باحتمالات العدوى، في سبيل سعادة شقيقه وسعادة العائلة، كان له أثر كبير في نفوس الجميع، ذلك أنّ “الإنسان” كان أكبر كثيراً من “النجم”.
محمّد صلاح وعلم النفس
إنّ “الصعود الآمن” للّاعب العالمي محمد صلاح يستحقّ التوقّف طويلاً، فمن ريف بسيون إلى مدن أوروبا، ومن مركز شباب محدود إلى أندية متوسطة إلى أندية عالمية كبرى، ومن تعليم متوسط إلى تعلُّم راقٍ، وسلوك متحضِّر، ومن وضع اقتصادي لا يختلف كثيراً عن باقي بلدته، إلى مركز ماليّ مرموق، وتعاقدات رفيعة، ومن شهرة لا تتجاوز آحاد الناس، إلى شهرة عالمية من اليابان إلى المكسيك.
على الرغم من ذلك الصعود المدهش، وفي كلّ نواحي الحياة تقريباً، فإنّ صلاح لم يهتزّ نفسيّاً، أو يرتبك اجتماعياً. ولم يقُم باستعراض سيّاراته أو طائراته، أو التقاط الصور في مزارعه وضيعاتِه.
ذلك النموّ النفسي لـ”مو” مع النموّ العامّ شهرةً وثروةً، هو جوهر ما يجب تقديره في ظاهرة صلاح. تجاوز “مو” كلّ الخطوات الكبرى، من القرية إلى العالم، من دون ضجيج أو ضجر، ومن دون انهيار ذات اليمين أو ذات اليسار. وهذا ما يستحقّ أن يتعلّمه الأبناء وتدركه الأجيال الجديدة.
إدارة النجاح قد تكون أصعب من إدارة الفشل، وقد نجح محمد صلاح في إدارة الفشل في سنواته الأولى، ثمّ تمكّن من إدارة النجاح في سنواته اللاحقة.
ما يجب على محمّد صلاح
ذات يوم انتشرت صورة لـ”مو” وهو يمسك بأطراف كتاب “فن اللامبالاة”، وبعد قليل ذاع صيت ذلك الكتاب، وارتفع توزيعه. في تلك الأثناء، التقيت والد محمد صلاح وكان من بين ما قلتُه للحاج صلاح: محمد صلاح عليه أن يستثمر شهرته وتعلُّق الشباب به بأن يكون سفيراً للقراءة.
لقد طغى “فيسبوك” على حياة الناس، ولم يعُد للكتاب أو المقال الوجود اللائق. وفي حال استمرّ التدهور الثقافي في بلادنا على هذا النحو، فإنّ ذلك ينذر بالخطر. وإذا كان البعض يعمل على استثمار المشاهير في أعمال جيّدة عديدة، فإنّ أهمّ مجال في تقديري يجب الاستثمار فيه هو الثقافة.
إقرأ أيضاً: مصر والعروبة العميقة (3/3): تحتمس الثالث.. وراية العرب
يجب أن يعمل مشاهير الفن والرياضة على أن يكونوا “دعاةً ثقافيّين” للشباب، وأن يكونوا سفراء للكتاب.
كم أتمنى أن يجري العمل على تقديم محمد صلاح قارئاً، ومثقّفاً، وصديقاً للمكتبات نجح في تطوير لغته ومهاراته الفكرية. تحتاج بلادنا إلى تحقيق تلك المعادلة الصعبة والممكنة: الرياضة في خدمة الثقافة، والشهرة في خدمة المعرفة، والنجم في خدمة الكتاب.
* كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً للرئيس المصري السابق عدلي منصور.
له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.
عضو مجلس جامعة طنطا، وعضو مجلس كليّة الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة.