أثار إعلان قصر بعبدا عن زيارة الحبر الأعظم لبنان في حزيران المقبل ردود فعل كثيرة تشكّكت في حصول هذه الزيارة، أبرزها تغريدة مراسل الفاتيكان كريستوفر وايت، الذي أعلن ردّاً على تغريدة القصر الجمهوري أنّ الفاتيكان “لم يعلن بعد عن هذه الزيارة”. ثمّ نشر موقع “الفاتيكان نيوز” خبراً مفاده أنّ زيارة البابا فرنسيس للبنان “لا تزال قيد الدرس”.
على أثر هذه الردود أُطلقت اتّهامات طالت رئيس الجمهورية بأنّه يريد استثمار الزيارة انتخابياً من دون الالتزام بالحدّ الأدنى من البروتوكول الذي يقتضي إعلان الفاتيكان عن الزيارة أوّلاً إذا كانت فعلاً ستحصل.
فماذا جرى حقيقة بين السفارة البابوية وبعبدا؟ ولماذا سارعت دوائر الفاتيكان غير الرسمية عبر وسائل الإعلام التي تنقل أخبارها إلى إعادة “فرملة خبر الزيارة”؟
أشارت مصادر مقرّبة من السفارة البابوية في لبنان إلى استياء الفاتيكان من إعلان قصر بعبدا عن الزيارة قبل أن يعلن عنها الصرح البابوي على اعتبار أنّ البروتوكول يقتضي انتظار الإعلان الرسمي من الفاتيكان قبل أيّ شيء آخر
منذ أيام تسلّم السفير البابوي في لبنان رسالة من الفاتيكان مفادها أنّ البابا فرنسيس يرغب بزيارة لبنان في 12 و13 من حزيران المقبل. فوجئ السفير البابوي بالرسالة على اعتبار أنّ المعطيات كانت تشير إلى أن لا زيارة قريبة للحبر الأعظم للبنان. فأيّ زيارة له لا يمكن إلا أن تحمل معها افتتاحاً لمسار حلّ للأزمة اللبنانية وليس تكريساً للأزمة. وتشير المعلومات إلى أنّ عدداً من المعنيين بالشأن اللبناني في الفاتيكان لم يكونوا على علم بالزيارة.
انتشر الخبر في عدد من وسائل الإعلام في لبنان، فتوجّه السفير البابوي إلى بعبدا حاملاً معه الرسالة الخطّيّة من الفاتيكان. تسلّمها رئيس الجمهورية مع صورة تذكارية له مع السفير البابوي، ثمّ نشر المكتب الإعلامي في القصر الخبر قبل أن يعلن الفاتيكان عن الزيارة.
اعتبرت مصادر قصر بعبدا أنّ من الطبيعي أن تنشر الخبر على اعتبار أنّ لقاء عون مع السفير البابوي كان مصوّراً، ولم تتلقّ أيّ طلب بعدم الإعلان عن الزيارة. وتضيف المصادر أنّ بيان بعبدا لم يعلن تاريخ الزيارة وترك البحث في تفاصيلها إلى وقت لاحق يحدّده الفاتيكان.
استياء الفاتيكان
في المقابل، أشارت مصادر مقرّبة من السفارة البابوية في لبنان إلى استياء الفاتيكان من إعلان قصر بعبدا عن الزيارة قبل أن يعلن عنها الصرح البابوي على اعتبار أنّ البروتوكول يقتضي انتظار الإعلان الرسمي من الفاتيكان قبل أيّ شيء آخر. فحتى الساعة الزيارات الوحيدة المعلنة للبابا فرنسيس في حزيران هي للكونغو وجنوب السودان.
بعد الاستياء الذي سبق أن عبّرت عنه مصادر مقرّبة من الفاتيكان من كلام الرئيس عون لصحيفة إيطالية عن حزب الله، تبدو الدوائر نفسها اليوم مستاءة من استغلال الزيارة سياسياً، وممّا يسبّبه الإعلان عنها من انقسام لبناني. فالزيارة هي لكلّ اللبنانيين، ولا يُراد منها أن تكون وسيلة لتوظيفات سياسية.
لكن بعيداً عن التفاصيل البروتوكولية، جاء خبر موقع “الفاتيكان نيوز” ليؤكّد أنّ “زيارة البابا فرنسيس للبنان لا تزال قيد الدرس”، وهو ما يعني أنّ الزيارة ليست مؤكّدة بعد.
تشير مصادر متابعة إلى أنّ زيارة الحبر الأعظم لا يمكن إلّا أن توضع في سياق مسار الحلّ في لبنان وسوريا، ولا سيّما أنّ أحد أهمّ الملفّات المطروحة، بالإضافة إلى سيادة لبنان والنأي عن إدخاله في صراعات خارجية، هو ملف اللاجئين السوريين
ماذا يعني هذا الكلام؟
انطلاقاً من ثوابت الفاتيكان التي سبق أن كرّرها أكثر من مرّة في أكثر من مناسبة، آخرها أثناء زيارة وزير الخارجية بول غالاغير للبنان، والتي تؤكّد التمسّك بتطبيق القرارات الدولية وعدم إدخال لبنان في الصراعات الأجنبية وتنفيذ الإصلاحات، وانطلاقاً من خوف الفاتيكان على لبنان من الزوال، فإنّ زيارة البابا فرنسيس لبنان حتميّة في حزيران المقبل، أي بعد الانتخابات النيابية المقبلة.
ترجّح مصادر مقرّبة من الفاتيكان أن يؤثّر أيّ تغيير في المسار السياسي المرتقب على الزيارة. بمعنى آخر، فإنّ إلغاء أو تأجيل الانتخابات النيابية أو تدهور الأوضاع بغير اتّجاه يمكن أن يمنع حصول هذه الزيارة. وتضيف المصادر أنّ زيارة الحبر الأعظم لا يمكن إلّا أن تكون من منطلق التمسّك بهويّة لبنان ودرءاً لخطر زواله، لأنّ الفاتيكان يريد المحافظة على هذا اللبنان وهذا النموذج الذي يتغنّى به في كلّ محافل العالم بوصفه بلد التنوّع.
تماماً كما عبّر غالاغير عن تخوّف الفاتيكان من زوال لبنان، ستكون زيارة البابا فرنسيس منطلقاً لبحث سبل المحافظة على لبنان “الرسالة”.
لكن كيف؟
تشير مصادر متابعة إلى أنّ زيارة الحبر الأعظم لا يمكن إلّا أن توضع في سياق مسار الحلّ في لبنان وسوريا، ولا سيّما أنّ أحد أهمّ الملفّات المطروحة، بالإضافة إلى سيادة لبنان والنأي عن إدخاله في صراعات خارجية، هو ملف اللاجئين السوريين. من هذا المنطلق، يحضر الكلام عن مساعٍ فرنسية مترافقة مع عودة خليجية مرتقبة إلى لبنان، ومتقاطعة مع رغبة الفاتيكان بسحب فتيل الانفجار من لبنان ووضعه على سكّة الحلّ السياسي من خلال مجموعة خطوات تبدأ بالانتخابات النيابية وتشكيل حكومة، وتُستكمل بالعمل على عقد قمّة لبنانية في باريس أو برعاية فرنسية لبحث إجراء تعديلات دستورية تعيد التوازن بين الطوائف، لكن تحت سقف اتفاق الطائف وليس خارجه.
هو مسار يُفترض أن تُتَوِّجه الانتخابات الرئاسية على أن تعكس التوازنات المقبلة في البلاد، وهي حتماً توازنات مختلفة عن الحالية، ولن تعكسها نتيجة الانتخابات النيابية بقدر ما ستعكسها التوازنات الطائفية والسياسية في البلاد.
أقرأ أيضاً: أبو زيد مرشّح “الرئاسة” في جزّين..
زيارة أمل.. لا انقسام
إذاً لا يمكن فصل زيارة الحبر الأعظم عن بدء ترسيم مسار معالجة الأزمة اللبنانية غيرَ بعيد عن الحلّ السوري أو عن تفاهمات المنطقة، ومن ضمنها الاتفاق النووي مع إيران في فيينّا.
ختاماً لا يمكن أن تحطّ الطائرة الرسوليّة على أرض لبنان من دون هديّة رجاء وقيامة وتمسّك بالهويّة اللبنانية. هكذا يقول العارفون بكواليس الصرح البابوي.
وبعيداً من الاستثمار السياسي الذي أُدخل فيه خبر الزيارة، فإنّ الأمل منها أن تكون زيارة رجاء بخروج لبنان من نفق الظلمة إلى بصيص من نور. هكذا يريدها الفاتيكان أن تكون للّبنانيين، لا أن تتحوّل حلبة صراع حول من سيستثمرها لمصالحه السياسية الضيّقة والانتخابية في الداخل اللبناني.