بعد العام 1929، وبموجب اتّفاق لاتران مع روما، أصبح رئيس كنيسة روما رئيساً لدولة الفاتيكان التي لا تتجاوز مساحتها 0.4 كلم مربّع. وهي دولة تكمن قوّتها في دورها التاريخيّ وانتشارها الدينيّ وقوّة دبلوماسيّتها العالميّة. لا تملك جيشاً ولا ترسانة عسكرية. إنّما لديها “جيوش” من الأساقفة والكهنة والرهبان والراهبات الذين يتسلّحون بالإيمان.
ليست المرّة الأولى التي يحاول طرف سياسيّ إقامة شرخ بين الفاتيكان وبكركي ويفشل. فالكنيستان لهما الثوابت ذاتها من لبنان الدولة والكيان والعيش المشترك والرسالة والحضور المسيحي
الحُكم في الفاتيكان مركزيّ. يرتكز على تعاليم الكنيسة الجامعة عبر التاريخ. لكنّ الحكم لا يعود لشخص البابا وحده، إنّما بشكل أساسي لـ”الكوريا الرومانية”. وهي تضمّ إدارات الفاتيكان. فيها أقسام متعدّدة: قسم العقيدة، وقسم التبشير، وقسم العائلات، ورابع للحوار بين الأديان، وغيرها. إلا أنّ الإدارة الأبرز فيها هي أمانة سرّ الدولة (بالفرنسية Secrétairerie d’Etat) التي تُقسم إلى شُعبتين: شعبة للشؤون الداخلية، وأخرى للشوؤن الدوليّة، وعلى رأسها سكرتير للعلاقات مع الدول، بتعبير آخر وزير للخارجية. يشغل هذا المنصب حالياً المونسنيور بول ريتشارد غالاغر الذي زار لبنان في شهر شباط الفائت، وأثارت زيارته زوبعة من التساؤلات والتحليلات والتخيّلات حول موقف الفاتيكان من الوضع في لبنان ومن حزب الله، ومن بكركي ودورها. تجدّدت الزوبعة مع زيارة الرئيس ميشال عون للفاتيكان. فربط البعض بين ما قاله عون لصحيفة La Republica من أنّه “ليس لحزب الله أيّ تأثير على الواقع الأمني الداخلي للّبنانيين”، وموقف الفاتيكان من الحزب.
ما أُشيع في شباط وما رُوّج منذ أيام كان هدفه إلصاق مواقف معيّنة بالفاتيكان وتأكيد الاختلاف بين مواقفه ومواقف بكركي من الأزمة في لبنان، ومن ضمنها حزب الله، وهذا غير صحيح لعدّة أسباب:
1- يتعامل الفاتيكان مع المسألة اللبنانيّة، كما أيّ مسألة عالميّة أخرى، انطلاقاً من ثوابت معيّنة. فهو مع الدولة اللبنانيّة ومؤسّساتها الشرعيّة، وحريص على الحضور المسيحي الفاعل فيها، وعلى رسالتها في الشرق الأوسط. هذا ما أكّده المونسنيور غلاغر مكرّراً كلام البابا فرنسيس عن أنّ لبنان “رسالة للمستقبل”. وهذا ما يكرّره البطريرك الراعي في كلّ عظة.
2- الفاتيكان قلق على مستقبل لبنان والحضور المسيحي فيه. وفي تصريحه من قصر بعبدا تطرّق المسؤول الفاتيكاني إلى هذه المسألة، وذكّر بكلام البابا فرنسيس عن أنّ “أيّ إضعاف للحضور المسيحي من شأنه أن يدمّر التوازن الداخلي وهويّة لبنان”. وهذا هو هاجس بكركي الذي يشدّد عليه سيّدها.
ما أُشيع في شباط وما رُوّج منذ أيام كان هدفه إلصاق مواقف معيّنة بالفاتيكان وتأكيد الاختلاف بين مواقفه ومواقف بكركي من الأزمة في لبنان، ومن ضمنها حزب الله، وهذا غير صحيح
3- لا يوافق الكرسي الرسولي على نظرة ميشال عون لحزب الله في ما قاله للصحيفة الإيطالية أو عبّر عنه في أيّ مناسبة أخرى. وفي اجتماع البابا مع عون لم يتمّ التطرّق إلى هذه المسألة لا من قريب ولا من بعيد. وهذا ما أكّده عون نفسه في صالون الرهبانية اللبنانيّة المارونية في روما. وحسناً فعل.
4- أمّا لقاء المونسنيور غالاغر مع وفد من حزب الله في السفارة البابويّة في حريصا، الذي سَرَت إشاعات عنه في شباط الماضي نقلتها بعض المواقع الإلكترونية، فهو لم يحصل. وقد علم به أعضاء لجنة الحوار الإسلامي – المسيحي من خلال الصُحف. وبغضّ النظر عن المعلومات، لا يمكن المتابع لدبلوماسيّة الفاتيكان أن يصدّق خبراً كهذا. فهي دبلوماسية دقيقة جدّاً. ويمثّلها اليوم رجل يجمع بين حنكة الدبلوماسيّة البريطانيّة وهدوء دبلوماسيّة الفاتيكان. وقد ظهر ذلك جليّاً في تصريحاته من لبنان.
5- من يعود لثوابت الفاتيكان في لبنان ومواقف بكركي وسيّدها منه لا يجد اختلافاً. فالإرشاد الرسولي، الذي عملت له الكنيسة المارونية وكان البطريرك بشارة الراعي حينها مطراناً ورئيس لجنة إعداده، أكّد أنّ لبنان أكثر من بلد، فهو رسالة. هذه هي نظرة البابا الحالي إلى لبنان. إذ يقول إنّ “لبنان كان ولا يزال ويجب أن يبقى مشروع سلام”، و”النموذج والمثال لمجتمع مفعم بالتسامح والتعدّدية في الشرق الأوسط”. فهو ليس مشروع حروب ولا اغتيالات ولا قتل، ولا مشروعاً لزعزعة أمن دول المنطقة. وهذا ما تُنادي به بكركي. وقد طرح البطريرك الراعي “الحياد” إطاراً وشرطاً لعيش هذه الرسالة وتحقيق هذا المشروع والنموذج. ويُطالب بتحرير الدولة لأنّه لا يمكن لها أن تؤدّي رسالتها في ظلّ هيمنة طرف عليها. ويُطالب بحصرية السلاح بيد القوى الشرعيّة اللبنانيّة، لتكون سيادة الدولة وحدها على أراضيها. وقد زوّدت بكركي الفاتيكان بتقارير عن رؤيتها لأزمات البلاد، ومنها أزمة النازحين وأزمة الانهيار السياسي والاقتصادي والمالي والاجتماعي الحالي. قرأتها الدوائر الفاتيكانية بتمعّن. وهي تنتظر توضيحاً أعمق لمشروع الحياد.
إقرأ أيضاً: الادّعاء على جعجع: الزمن السوري ولّى إلى غير رجعة..
فشل محاولات الشرخ
ليست المرّة الأولى التي يحاول طرف سياسيّ إقامة شرخ بين الفاتيكان وبكركي ويفشل. فالكنيستان لهما الثوابت ذاتها من لبنان الدولة والكيان والعيش المشترك والرسالة والحضور المسيحي. وهما تنهلانها من تعاليم الكنيسة الكاثوليكية الجامعة في ما خصّ الإنسان وحرّيّته والدولة والمجتمع والعلاقات بين الدول وغيرها من الأمور السياسيّة. ولكنّهما تعبّران عن ثوابتهما كلٌّ بأسلوبه. ولا تستسلمان لحالة شاذّة تضرب مفهوم الدولة وتدمّر المجتمع وتقتل الإنسان فيه. إنّهما كنيستان مقاوِمتان. كنيسة روما قاومت الإمبراطوريات عبر التاريخ، أولاها الرومانيّة ولن تكون آخرها السوفياتيّة. والكنيسة المارونية قاومت الاحتلالات، بالأمس السوريّ واليوم الإيرانيّ. ولن تبدّل ثوابت الكنيستين تصاريح رئيس هو المسؤول الأوّل عن تراجع الحضور المسيحي في لبنان منذ ثمانينيّات القرن الماضي، وعن انهيار الدولة اليوم. ولن يُخيفهما سلاح حزب، حتى لو كان حزب الله.
* أستاذ في الجامعة اللبنانية