لا شكّ أنّ إعلان رئيسة الائتلاف الحكومي عن حزب “يمينا”، عيديت سيلمان، الانسحاب من حكومة بينيت، الذي يعني عدم وجود أغلبية للائتلاف في الكنيست، شكّل ضربة قويّة لبينيت، الذي تعاني حكومته من مفاعيل العمليات “القاسية” في بئر السبع والخضيرة والنقب.
صحيح أنّه من المبكر معرفة نتائج هذه الاستقالة وانعكاساتها على مستقبل حكومة بينيت الهشّة، وهل تنضمّ سيلمان إلى معسكر نتانياهو أم تتراجع عن استقالتها؟ لكن من المؤكّد أنّ هذه الخطوة تصبّ في مصلحة اليمين الإسرائيلي الذي يحرّض ليل نهار على القيام بعملية “السور الواقي 2” في الضفّة، وقد تدفع بينيت إلى السير بها أو بما شابهها في سبيل الحفاظ على حكومته.
تتفاخر الحكومات الإسرائيلية بما يسمّيه الشاباك “ماكينة قصّ العشب”، وهي سلسلة يومية من الاعتقالات للفلسطينيين في الضفّة والتحقيق معهم، تؤدّي إلى الحصول على المزيد من المعلومات وإلى المزيد من الاعتقالات في الضفة
لقد مضى عشرون عاماً على عملية السور الواقي، التي أصدر رئيس الوزراء آنذاك، آرييل شارون، الضوء الأخضر للقيام بها، في أعقاب العمليات الانتحارية التي انطلقت من مخيّم جنين، ومن طولكرم وقلقيلية، في خلال الانتفاضة الثانية، بعد فشل مؤتمر كامب ديفيد في صيف 2000، ووقوع أكثر من 130 قتيلاً إسرائيلياً في شهر آذار من 2002.
كانت الخطوة الأولى للسيطرة على الأراضي الفلسطينية هو عزل مقرّ قيادة السلطة في رام الله، وفي قلبه المقاطعة والرئيس ياسر عرفات. فقد حاصر مقاتلو “اغوز” ووحدة “غولاني” المقاطعة وجعلوا أبو عمّار سجيناً فيها، ثمّ بدأوا بالسيطرة على مراكز المدن ومخيّمات اللاجئين في الضفة.
الآن تتعالى الأصوات اليمينيّة في إسرائيل، مناديةً بالعودة إلى “السور الواقي”، التي اعتُبرت بأثر رجعيّ النقطة التي بدأت فيها إسرائيل بترجيح الكفّة في الانتفاضة الثانية.
ثغرات “جدار الفصل العنصري”
ما يدلّ على نوايا حكومة بينيت وجهاز الأمن في المناطق هي سلسلة الخطوات التي تمّت المصادقة عليها، وإرسال 14 كتيبة نظامية من الجيش إلى الضفة وخطوط التماس مع القطاع.
يتعجّب الكاتب الإسرائيلي ناحوم بريناع من الدعوات الصاخبة إلى شنّ حملة “سور واقٍ” ثانٍ: “في حملة السور الواقي، كانت السلطة الفلسطينية هي العدو، ومناطقها مناطق العدوّ. أمّا اليوم فالجيش الإسرائيلي يعمل في كلّ المنطقة، والسلطة هي خصم وشريك. واليوم تتطلّع العيون بقلق ليس فقط إلى الضفّة وإلى غزّة، بل إلى إسرائيل، إلى شرقي القدس، إلى المدن المختلطة، إلى الوسط العربي”، ويستطرد الكاتب: “لقد أجريت جولة على طول جدار الفصل، سرت من ثقب إلى ثقب، ومن ثغرة إلى ثغرة. كيف يترك الجيش الإسرائيلي الجدار سائباً؟ سألت أحد الجنرالات، فقال لي متبسّماً “نحن نبقي على هذه الثغرات، فهي تستهدف عبور العمّال من الضفة إلى داخل إسرائيل. مزيد من العمال هو مزيد من المال، ومزيد من المال هو إرهاب أقلّ. لذا يترك الجيش الإسرائيلي الثغرات مفتوحة عن قصد”.
تتفاخر الحكومات الإسرائيلية بما يسمّيه الشاباك “ماكينة قصّ العشب”، وهي سلسلة يومية من الاعتقالات للفلسطينيين في الضفّة والتحقيق معهم، تؤدّي إلى الحصول على المزيد من المعلومات وإلى المزيد من الاعتقالات في الضفة، وتبقي إيقاع الهجمات المسلّحة منخفضاً نسبيّاً. وهذا هو الذي مكّن الحكومات الإسرائيلية من أن تتجاهل تقريباً بشكل كامل النزاع الفلسطيني ومن التركيز على اتفاقات السلام والتطبيع مع الدول العربية.
يُروى أنّه بعد الإعلان عن إقامة الدولة انعزل ديفيد بن غوريون في الشمال، فتوجّه إليه صديق وسأله: “لماذا لا تشارك في فرحة الشعب العامّة؟”. فأجاب بن غوريون: “الإعلان عن دولة سهل، الأصعب هو الحفاظ عليها”. وكذلك هي الحال مع قمّة النقب، فإنّ حدوثها شيء، ونتائجها على الأرض شيء آخر.
يقدّر الشاباك الإسرائيلي أنّ العملية التالية ضدّ الإسرائيليين مسألة وقت، وأنّه بات واضحاً أنّ العمل العسكري وحده لن ينجح دائماً في إحباط أعمال “الإرهاب” المخطّط لها، وأنّ تحقيق هدوءٍ طويل المدى يحتاج إلى مفاوضات سياسية فورية
في صحيفة “معاريف”، وتحت عنوان “إنّها فلسطين يا غبي”، كتب التالي: “قمّة “سديه بوكر” كانت كخدعة سراب وفرصة لالتقاط صورة، وقد انطلقت مع بشرى إنشاء جبهة دفاع مشترك ضدّ إيران، وانتهت بالتحطّم على أرض الواقع، بعد العمليات الفلسطينية. والآن بلّغ بينيت، الذي هو الآخر غرّ سياسيّ، بأنّ إيران “آوت” وفلسطين “إن”.
لقد أعادت العمليات الأخيرة طرح المعضلة على بينيت: هل يجب إخراج الشظيّة من مؤخّرته والمخاطرة بأن يصبح معاقاً، أم يسلِّم بوجودها ويتعلّم كيفيّة التعايش معها؟ فعندما كان بينيت في حركة “البيت اليهودي” في 2013، قام بالمقارنة بين المشكلة الفلسطينية وبين شظيّة في المؤخّرة. حتى هو نفسه لم يجرؤ في حينه على أن يحلم بأنّه ذات يوم سيصبح رئيس حكومة وسيضطرّ إلى اتخاذ قرار حاسم في هذه المعضلة.
يقدّر الشاباك الإسرائيلي أنّ العملية التالية ضدّ الإسرائيليين مسألة وقت، وأنّه بات واضحاً أنّ العمل العسكري وحده لن ينجح دائماً في إحباط أعمال “الإرهاب” المخطّط لها، وأنّ تحقيق هدوءٍ طويل المدى يحتاج إلى مفاوضات سياسية فورية.
عمليات بلا ثمن
في منظومة الأواني المستطرقة التي تدير ميزان الرعب بين غزّة وإسرائيل والضفّة، فإنّ العمليات المنفردة، حتى لو لم تكن حقّاً كذلك، تخدم فكرة المقاومة المسلّحة من دون أن يكون على “حماس” أو “الجهاد” دفع ثمن مقابلها. وفي حين أنّه لو قبلت حركة حماس، حتى لو بصورة غير علنية، الفصل الذي طالبت به مصر بين نشاطاتها في غزّة والضفة وشرق القدس، فإنّ الجهاد الإسلامي سيرفض هذا الفصل، وهذا سيكون من شأنه أن يجرّ حماس إلى منافسة عنيفة مع إسرائيل وإلى مسار تصادم مع مصر.
إقرأ أيضاً: إسرائيل بعد أوكرانيا: تهمة الأبارتهايد لن ترحم
هذا وكانت حركة حماس قد ضغطت على حركة الجهاد الإسلامي من أجل عدم الردّ من غزة بعد اغتيال إسرائيل ثلاثة من عناصر جناحها العسكري “سرايا القدس” في مدينة جنين، فجر أوّل يوم في رمضان. وقد ذكرت مصادر في الجيش الإسرائيلي أنّ أفراد خليّة “الجهاد الإسلامي” لم يكونوا على رادار المخابرات الإسرائيلية سابقاً، وأنّهم ظهروا على رادار أجهزة مخابرات الاحتلال قبل ساعات من الاغتيال عندما أطلقوا النار على حاجز لجيش الاحتلال في منطقة طولكرم.
وقال وزير الجيش الإسرائيلي، بيني غانتس، إنّه “لا يلاحظ رغبة لدى حركة “حماس” في التصعيد”. وعلى الرغم من أنّ حركة حماس باركت عمليات الخضيرة والنقب، لكن من الواضح أنّها لا تريد الانجرار إلى مواجهة عسكرية في ظلّ ميزان الردع الهشّ الموجود حالياً بينها وبين إسرائيل.