كان ميشال عون يفضّل بكلّ تأكيد البقاء في قصر بعبدا متذرّعاً بحجج كثيرة، من بينها أنّ المطلوب تفادي الفراغ في حين أنّ عهده لم يكن سوى عهد الفراغ والخواء. كان شخصاً يخاف ولا يستحي. لم يمتلك جرأة الاعتذار من اللبنانيين بعد كلّ ما فعله بهم وببلدهم. لم يستحِ بما ارتكبه. لم يخَف إلا من “حزب الله” الذي التزم عون الرضوخ لكلّ ما طلبه منه، وذلك قبل أن يوصله الحزب إلى موقع رئيس الجمهوريّة في آخر تشرين الأوّل من العام 2016. كان يعرف جيّداً ثمن أيّ خطأ يرتكبه مع الحزب. هذا ما جعله يتفادى أيّ خطأ، وهذا يفسّر مسارعته إلى رفض أيّ تحقيق دولي في تفجير مرفأ بيروت في الرابع من آب من العام 2020.
لم يصدّق ميشال عون يوماً أنّه دخل قصر بعبدا، وما زال لا يصدّق أنّه خرج منه. كانت الفكرة التي في رأسه أنّ غياب حكومة حصلت على ثقة مجلس النواب تبرّر لرئيس الجمهورية البقاء في القصر الرئاسي. كان يسعى إلى البقاء في بعبدا إلى حين قيام مثل هذه الحكومة التي ترضي تشكيلتها صهره جبران باسيل وتمنحه موطئ قدم ذا طابع سياسي في مرحلة ما بعد نهاية رئاسته.
لكنّ شيئاً من ذلك لم يتحقّق بعدما أفسد نجيب ميقاتي رئيس الوزراء المكلّف كلّ خطط جبران باسيل الذي كان يطمح إلى سلّة تعيينات تقرّها الحكومة الجديدة وإلى حفلة تجنيس لسوريين وعراقيين وإيرانيين. وإلى إقالة قائد الجيش العماد جوزف عون، وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، هذا إذا أمكن.
لم يدرك ميشال عون وجبران باسيل أنّ لدى “حزب الله”، حليفهما الأوّل والأخير، حسابات خاصّة به، خصوصاً بعدما حقّق “العهد القويّ” للحزب كلّ ما هو مطلوب منه تحقيقه
عون يخضع .. العالم اخذ توقيعه ولم يسحقه
قبل ساعات من نهاية ولايته، توجّه ميشال عون إلى منزله الجديد الذي شيّده في منطقة الرابية بمواصفات تكشف انتماءه إلى طبقة الأغنياء الجدد من جهة، وقلّة الذوق من جهة أخرى.
يعود الفضل في رحيل عون عن قصر بعبدا إلى تلويحات بعقوبات دوليّة، عقوبات أميركيّة وأوروبيّة، عليه تشمل حسابات لأفراد عائلته في خارج لبنان. لغة العقوبات هي اللغة الوحيدة التي يفهمها ميشال عون المستعدّ لخرق الدستور يوميّاً من شدّة حقده على لبنان واللبنانيين وعلى اتفاق الطائف وعلى كلّ سنّيّ في لبنان… تماماً مثل حقده على كلّ مسيحيّ يرفض الخضوع له أو درزيّ ذي حيثيّة. هنا أيضاً، يتأكّد أنّ ميشال عون يخاف ولا يستحي. يخاف من العقوبات التي يعرف صهره معناها بعد فرضها عليه بموجب قانون ماغنتسكي الأميركي. إنّه قانون يتعلّق بالفساد الذي يعرف الأميركيون مَن يجب تطبيقه عليه في مختلف أنحاء العالم.
لم يدرك ميشال عون وجبران باسيل أنّ لدى “حزب الله”، حليفهما الأوّل والأخير، حسابات خاصّة به، خصوصاً بعدما حقّق “العهد القويّ” للحزب كلّ ما هو مطلوب منه تحقيقه، بما في ذلك تحويل قسم من مسيحيّي لبنان إلى مجرّد تابعين لإيران. كان آخر استخدام إيراني لميشال عون وصهره في مجال تغطية ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، وهو ترسيم يمثّل في واقع الحال رسالة مباشرة من “الجمهوريّة الإسلاميّة” إلى “الشيطان الأكبر” الأميركيّ ممثّلاً بآموس هوكستين.
خرج ميشال عون من قصر بعبدا وذهب إلى الرابية وليس إلى مسقط رأسه في حارة حريك التي تحوّلت إلى معقل لـ”حزب الله”. لم يسأل نفسه يوماً لماذا عليه التقاعد في الرابية وليس في حارة حريك؟
يرفض أخذ العلم بما فعلته يداه وكمّيّة الضرر الذي ألحقه بلبنان واللبنانيين ومستقبل أبنائهم. ألقى المسؤولية على آخرين. كان كلّ طموحه في الحياة الوصول إلى قصر بعبدا، كما يقول الضبّاط الذين عرفوه منذ ما يزيد على نصف قرن. وصل إلى القصر وبقي فيه ستّ سنوات أمضى نصفها يعرقل تشكيل حكومات. كان شاهداً على المآسي التي شهدها عهده، من غياب الكهرباء، إلى انهيار النظام المصرفي… إلى كارثة تفجير مرفأ بيروت. لم يجد الوقت ليمرّ قرب المرفأ المدمّر كي يضع وردة عند الأهراءات التي ما تزال واقفةً تشهد على الكارثة التي لم يفعل شيئاً من أجل تفاديها، على الرغم من أنّه أُبلغ بتخزين نيترات الأمونيوم في أحد عنابر المرفأ قبل أسبوعين من التفجير. وهو اعترف شخصيّاً بذلك، بالصوت والصورة، لكنّه لم يفعل شيئاً.
غُربة عون عن الاجتماع اللبناني
في تعامله مع ميشال عون يتعاطى المواطن اللبناني مع شخص لا يمتّ إلى الشعور الإنسانيّ بصلة من قريب أو بعيد. إنّه شخص لا تحرّكه سوى الأحقاد التي تمكّنت منه باكراً وحرمته من ذرف دمعة على ضحيّة من ضحايا تفجير المرفأ مثلما حرمته في الماضي من ذرف دمعة أو مجرّد السؤال عن العسكريين الذين دافعوا عن قصر بعبدا في 13 تشرين الأوّل 1990. هؤلاء العسكريون الذين تخلّى عنهم وذهب إلى السفارة الفرنسيّة بمجرّد مشاهدته مقاتلة سورية تحلّق في سماء قصر بعبدا.
إقرأ أيضاً: عون خارج التاريخ
أمام رجل يخاف ولا يستحي، كان طبيعياً أن يحلّ بمسيحيّي لبنان ما حلّ بهم. كان طبيعيّاً أيضاً ذهاب ميشال عون إلى دمشق لاسترضاء بشّار الأسد وتفاديه أيّ سؤال عن مصير اللبنانيين، من عسكريين وغير عسكريين، في السجون السوريّة. ليس مهمّاً أن يموت هذا العسكري أو ذاك الضابط اللبناني أو ذلك… ما دام في استطاعة ميشال عون الإقامة في الرابية في فيلّا خاصّة به كلّفت غيره ملايين الدولارات. يحدث ذلك في بلد صار تحت الاحتلال الإيراني، لكن ما يزال فيه رجال سياسة لا يخافون، غير أنّهم يستحون من امرأة مسيحية أو مسلمة فقدت ابنها في تفجير مرفأ بيروت، وهو تفجير عمل رئيس الجمهوريّة السابق كلّ ما يستطيع من أجل عدم كشف الجهة التي تقف خلفه وتتحمّل المسؤوليّة عن حدوثه.