مقالي عن “استيقاظ العملاق الألماني” لم يطمئن بعض القرّاء. أثار مخاوفهم. إذ يعتبرون أنّ ألمانيا تستغلّ الغزو الروسي لأوكرانيا كي تتسلّح. وإذا ما استمرّت بزيادة ميزانيّاتها الدفاعية في السنوات المُقبلة فسيصبح لديها فائض قوّة عسكرية ربّما سيُشجّع المسؤولين فيها على إعادة إحياء الطموحات التوسّعية من جديد. وإذا ما وصل “هتلر” جديد إلى السلطة فيها فستشُنّ الحروب كما يفعل بوتين اليوم.
إنّه الخوف المُزمن من ألمانيا. خوف مبرّر في جزء منه. فألمانيا كانت السبب في حربين عالميّتين أخذتا مساحات واسعة في كتب تاريخ القرن العشرين وخلّفتا أكبر مآسٍ عرفتها البشرية: قتلى ومصابين بالملايين، وخراباً ودماراً بالمليارات، وفقراء ومشرّدين وأيتاماً وأرامل…. وزاد هذا الخوفَ من ألمانيا “شيطنةُ” شخصيّة هتلر والنازيّة التي قام بها الإعلام الغربي الذي ربح الحرب، خاصة أنّ اليهود يسيطرون على القسم الأكبر من هذا الإعلام، حتى أضحت معاداة السامية جريمة، ومحرقة “أوشفِيتز” مناسبة عالميّة. وها هو “هتلر” العصر يتّهم الأوكرانيين بالنازيّة.
لن يشجّع غزو بوتين لأوكرانيا، وعلى عكس ما يخشى البعض، ألمانيا على الانطلاق في مغامرات عسكريّة
الخوف من تسلّح ألمانيا مبرَّر جيوسياسياً أيضاً. فألمانيا دولة قارّيّة. وأيّ طموح توسّعيّ يفترض الوصول إلى المياه الدافئة في
البحر الأدرياتيكي، ومنه إلى المتوسّط، لكن تفصلها عنها دول أوروبية عدّة. وفي العقل الجيوسياسي الألماني وحدة أوراسيا بقيادة ألمانيّة هي مسألة مهمّة لكي تصبح ألمانيا دولة عظمى. والشرق الأوسط هو المدخل لهذه الوحدة. من هنا كان التقارب الألماني – العثماني في النصف الثاني من القرن التاسع عشر غداة تحقيق وحدة ألمانيا (1871). وأحد مشاريعه بناء خطّ سكّة حديد يصل برلين ببغداد، ومنها إلى بحر الخليج، لكنّ بريطانيا العظمى لم تسمح بإتمامه باقتطاعها الكويت من ولاية البصرة.
ساهم هذا الفكر الجيوسياسي الألماني في اندلاع الحرب العالميّة الثانية بسبب تأثير كارل هاوسهوفر (مؤسّس علم الجيوسياسة) على هتلر. لكن ألا يزال هذا المشروع قائماً في عمق الفكر الجيوسياسيّ الألماني؟ ربّما، خاصة أنّ مؤسّسي الفكر الجيوسياسي الألماني كانوا يؤمنون بحتميّة الجغرافيا في وضع استراتيجيات الدول. وإذا كانت الجغرافيا تحدّد جيوسياسة الدول، فإنّ اقتصاداتها ترسم استراتيجياتها. من هنا، القوّة الاقتصادية الألمانية هي ما يعزّز مخاوف البعض من التسلّح الألماني. فهي الأولى أوروبياً والرابعة عالمياً على مستوى الاقتصاد. ولكنّ كلّ هذا لا يبرّر الخوف من تربّع “هتلر” جديد على رأس الحكم في ألمانيا، وأن يغرقها في حروب توسّعية على غرار ما يفعل “هتلر العصر” في أوكرانيا، وذلك لسبب أساسي: الديموقراطيّة.
ديمقراطية ألمانيا
الديموقراطية متجذّرة في ألمانيا، كما في كلّ الدول الأوروبية. لم تكن هذه هي الحال في أوروبا في ثلاثينيّات القرن الماضي. ففي إيطاليا كان موسوليني الفاشي يحكم منذ العام 1922. وكان سالازار الديكتاتور يحكم البرتغال منذ العام 1932. وفي إسبانيا أسّس الجنرال فرانكو في العام 1939 لأطول ديكتاتورية في أوروبا. في هذا الواقع الجيوسياسيّ لأوروبا وصل هتلر إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع، وحوّل النظام إلى ديكتاتوري.
لقد ساهم الاتحاد الأوروبي في تطوير الديموقراطيّات الأوروبيّة، والألمانية طبعاً. فهو يشترط أساساً ديموقراطية النظام لقبول عضويّة أيّ دولة. ويقوم هذا النظام على مؤسّسات سياسيّة تنفيذيّة وتشريعيّة وقضائيّة، وعلى سلطات إعلامية، وعلى أحزاب سياسيّة ومجتمع مدني وقادة رأي، لا يمكن لأيّ حاكم أن يختصرهم كلّهم بشخصه. وأصبحت هذه الديموقراطية ثقافة شعب، في ألمانيا كما في كلّ الديموقراطيّات الغربيّة. لا تحميها الدساتير والمؤسّسات والأنظمة فقط، إنّما الشعوب أيضاً.
يبدو الغزو الروسي لأوكرانيا، في جزء منه، صراعاً بين الديموقراطية والديمقتاتوريّات. الأولى تقف إلى جانب أوكرانيا، بينما تدعم روسيا بعضُ فلول الأنظمة الديكتاتورية في العالم
هذه الثقافة غير موجودة في روسيا. الحكم الشيوعي السوفياتي لسبعة عقود أبقاها بعيدة عن تطوّر الديموقراطيّة. لا بل رفضها انطلاقاً من معاداته للّيبراليّة الاقتصاديّة. لذلك، وعلى غرار هتلر، تمكّن فلاديمير بوتين، بعد وصوله إلى السلطة في العام 2000، من تحويل النظام الديموقراطي إلى ما يمكن تسميته بالـ”الديمقتاتوريّة” (بجمع الكلمتين ديموقراطية وديكتاتورية). اختصر مؤسّسات الدولة بشخصه. وراح يزجّ بجيشه في حروب خدمةً لطموحاته التوسّعيّة في الشيشان وجورجيا وشرق أوكرانيا وسوريا… واليوم في غزو أوكرانيا… هدف “القيصر الجديد” استعادة أمجاد روسيا القيصرية وروسيا السوفياتية.
بالمناسبة، الاجتياح الأميركي للعراق لا يشبه حروب بوتين. إذ كان هدفه إحكام القبضة الأميركية على منطقة تختزن أكبر احتياطات نفط وغاز في العالم تحت عنوان التخلّص من ديكتاتورية صدّام حسين وإقامة نظام ديموقراطيّ. في كلّ الأحوال، كان التدخّل العسكري الأميركي الوحيد في العالم بعد حرب فييتنام. بعد سنوات أدركت الديموقراطية الأميركية خطأها وحجم الخسائر. فاتّخذت واشنطن القرار بعدم التدخّل المباشر في أيّ صراع عسكري في العالم.
لذلك يبدو الغزو الروسي لأوكرانيا، في جزء منه، صراعاً بين الديموقراطية والديموقرا-توريّات.. الأولى تقف إلى جانب أوكرانيا، بينما تدعم روسيا بعضُ فلول الأنظمة الديكتاتورية في العالم (ومنها سوريا وكوريا الشمالية). وتقف إلى جانبها الأنظمة “الديموقرا-توريّة” (وأبرزها الصين وتركيا وإيران). فهي تدعم نظاماً يشبه أنظمتها، لكن بحذر لأنّ مصالحها الحيويّة مرتبطة بالديموقراطيّات الغربيّة.
إقرأ أيضاً: استيقظ العملاق الألمانيّ: إقرأوا “شيرادام”
لن يشجّع غزو بوتين لأوكرانيا، وعلى عكس ما يخشى البعض، ألمانيا على الانطلاق في مغامرات عسكريّة. ثبات الديموقراطيات في موقفها الموحّد، ومعها ألمانيا بالطبع، سيردع قوى عالميّة أخرى عن الإقدام على مثل هذه المغامرات. هذا ما أكّدت عليه بالأمس القمم الثلاث في بروكسل. إنّه الصراع بين الديموقراطية والديمقتاتوريّة. الانتصار سيكون للأولى.
* أستاذ في الجامعة اللبنانيّة