إمبراطوريّة الكذب وإمبراطوريّة الشرّ.. بوتين يواجه ريغان

مدة القراءة 7 د

في بداية عقد الثمانينيّات أطلق الرئيس الأميركي رونالد ريغان على الاتحاد السوفياتي وصف “إمبراطورية الشرّ”، وبعد أربعين عاماً أطلق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على الولايات المتحدة والغرب وصف “إمبراطورية الكذب”.

من المثير أنّ مسلسلاً مكسيكياً تمّ بثه عام 2021 باللغة الإسبانية يحمل اسم “إمبراطورية الكذب”. وفي المسلسل يقع ضابط الشرطة “ليوناردو” في حبِّ الشابّة الثريّة “إليسا”، ثمّ يكتشفان حجماً هائلاً من الفساد يتمدّد في كلّ اتّجاه.

غطّى المصطلح الروسي على المسلسل المكسيكي، وراح الناس يبحثون عن صراع بوتين وبايدن، بديلاً عن مغامرات ليوناردو وإليسا.

استخدم الإعلام الصيني وصف “إمبراطورية الكذب” على نطاق واسع، وأشارت وكالة الأنباء الصينية الرسمية “شينخوا” إلى العديد من الأكاذيب الأميركية، مثل أسلحة الدمار الشامل في العراق، وانهيار النظام الصحّي في كوبا.

تنفي أوكرانيا الاتّهامات الروسية، وترى واشنطن أنّ روسيا تخطّط لذلك، وتلقي بالاتّهامات مقدّماً على الأطراف الأوكرانية

وذكرت الوكالة أنّ واشنطن تستخدم الإعلام والسينما والمنظّمات غير الحكومية والبريد الإلكتروني العشوائي من أجل ترويج الأكاذيب. ثمّ تقول الوكالة: الإفلاس الأخلاقي لأميركا بات أكثر وضوحاً.

تنفي الولايات المتحدة الاتّهامات الصينية، وتقول إنّ الحزب الشيوعي الصيني هو ما يختلق الأكاذيب، ويروّج لها.

 

عصر اللايقين

يتحدّث الإعلام البريطاني عن قيام روسيا باختراق الحكومة في لندن، وتنظيم اتصال بين وزيريْ الدفاع والداخلية البريطانيّيْن وبين شبيه الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي.

قضايا كبرى مثل أسلحة الدمار الشامل باتتْ قضايا تفتقر إلى اليقين، بحيث لا حقائق تقريباً فيها. فكلّ طرف لديه “الحقائق الخاصّة” به، ويجزم الطرف الآخر بكذب تلك الحقائق واختلاقها.

تنفي أوكرانيا سعيها إلى امتلاك أسلحة نووية، وتؤكّد أنّها منذ تخلّت عن ترسانتها النووية الموروثة من الاتحاد السوفياتي، والتي وصلت عام 1991 إلى 1700 رأس نووي، لم تعد ترغب في امتلاك سلاح نووي.

لكنّ وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو يتّهم الولايات المتحدة بترتيب نقل أسلحة نووية أميركية، تعمل في إطار حلف الناتو، من ألمانيا إلى أوكرانيا.

 

بيولوجيّ أوكرانيا

تؤكّد روسيا امتلاك أوكرانيا، بدعم أميركي، ترسانة أسلحة بيولوجية، وتنفي أوكرانيا وأميركا الاتّهام الروسي. تقول روسيا إنّ أوّل مختبر بيولوجي عسكري “أوكراني – أميركي” بدأ العمل عام 2007، وفيما بعد تمّ إنشاء 30 مختبراً بيولوجياً عسكرياً في أوكرانيا، و20 مختبراً آخر في دول الاتحاد السوفياتي السابق، وفي مقدَّمها جورجيا. وهكذا يذهب التقدير الروسي إلى وجود 50 مختبراً بيولوجياً أميركياً يحيط بروسيا، تمّ إنفاق أكثر من 200 مليون دولار عليها.

تنتج المختبرات، بحسب وزارة الدفاع الروسية، فيروسات مسبّبة لأمراض خطيرة. وفي مجلس الأمن أكّد مندوب روسيا امتلاك بلاده وثائق تؤكّد النوايا العدوانية للمختبرات العسكرية البيولوجية في أوكرانيا، وأنّ ذلك البرنامج العسكري لإنتاج أسلحة بيولوجية يعمل بدعم أميركي.

في السياق نفسه، تتحدّث موسكو عن وجود أبحاث لنقل الأمراض من الخفافيش إلى البشر، وأنّ بعضها يخصّ فيروس كورونا، وتُبدي روسيا قلقها من احتمال استخدام أوكرانيا للأسلحة البيولوجية، إذا امتدّ أجل الحرب.

تنفي أوكرانيا الاتّهامات الروسية كافّة، وتؤكّد أنّ مختبراتها تعمل بالتعاون مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ومنظمة الصحة العالمية، وأنّها تندرج في إطار الدفاع البيولوجي ودعم الصحة العامّة، وأنّ أميركا تدعم 6 مختبرات من بين 26 مختبراً في أوكرانيا.

بدورها قالت واشنطن إنّ “المختبرات البيولوجية هي منشآت صحية ندعمها بكلّ فخر، وروسيا هي التي أطلقت برنامجاً بيولوجياً، وتمتلك تاريخاً في استخدامها، ولا تعدو اتّهامات روسيا أن تكون نوعاً من الكذب والبروباغاندا”.

النازيّون الجدد

تتّهم روسيا أوكرانيا باتّجاهها نحو اليمين القومي المتطرّف، ورعاية الدولة للنازيين الجدد، ولا سيّما كتيبة آزوف. وتقول أوكرانيا إنّ هذا غير صحيح، وإنّ الرئيس الأوكراني نفسه يهودي الديانة، فكيف يكون يهودياً ونازياً؟

تتّهم روسيا أيضاً الاستخبارات الأوكرانية وكتيبة آزوف بالعمل على تفجير محطة نووية للأبحاث في معهد خاركيف للفيزياء، وذلك بغرض اتّهام روسيا، وتحميلها المسؤولية عن الكارثة البيئية الناجمة عن الانفجار.

تنفي أوكرانيا الاتّهامات الروسية، وترى واشنطن أنّ روسيا تخطّط لذلك، وتلقي بالاتّهامات مقدّماً على الأطراف الأوكرانية.

لقد ثار الجدل ذاته في ما يتعلّق بمفاعل تشيرنوبل ومفاعلات نووية أخرى، إذ توالت الاتّهامات المتبادلة بالتسبّب في حرائق المفاعلات، واحتمالات التسرّب الإشعاعي، وقدّم كلّ طرف ما يؤكّد صحّة اتّهامه للطرف الآخر.

لقد امتدّ ذلك التناقض إلى التصريحات الرسمية بشأن “الممرّات الآمنة”، فبينما تتّهم أوكرانيا روسيا بقصف الممرّات الآمنة لمنع خروج النازحين، تتّهم روسيا أوكرانيا بقصف الممرّات، واستخدام المواطنين دروعاً بشرية.

لم يقف التناقض عند ذلك الحدّ، إذْ تتّهم روسيا أوكرانيا بالإبادة الجماعية للأقليّة الروسية في شرق أوكرانيا، وتتّهم أوكرانيا روسيا بارتكاب جرائم حرب تستوجب المثول أمام المحكمة الجنائية الدولية.

 

الجمرة الخبيثة من جديد

لا تزال الولايات المتحدة ترى روسيا “إمبراطورية الشرّ”، التي تنتهك حقوق الإنسان، وتقمع المعارضة، وتهدّد الدول المجاورة. وبدورها ترى روسيا أميركا “إمبراطورية الكذب”، التي تخلط السياسة بالرياضة، وتمنع الإعلام الروسي من العمل في الغرب، وتنتهك قواعد حرّية الطيران بإغلاق الأجواء في مواجهة روسيا، وقواعد التجارة العالمية بإغلاق الموانئ وإخراج البنوك الروسية الكبرى من نظام “سويفت” للتحويلات الماليّة.

وهكذا ليس الغرب الديمقراطي، برأي موسكو، ديمقراطياً، والرأسمالي ليس رأسمالياً، والليبرالي ليس ليبرالياً، بل هو إمبراطورية الكذب.

الحقيقة الوحيدة في الأزمة الأوكرانية هي أنّ روسيا قد قامت بغزو أوكرانيا، وهذا أمرٌ تجب إدانته. وبعد ذلك فإنّ كلّ طرف بات يضع حقائقه الخاصة، وبات يدمّر حقائق الآخرين في موجة غير مسبوقة من عدم اليقين.

قبل سنوات شاعت في الولايات المتحدة حوادث تسلّم طرود الجمرة الخبيثة، واتّضح لاحقاً، حسب وسائل إعلام أميركية، أنّ عالماً أميركياً يعمل في مجال الدفاع البيولوجي، وعمل مستشاراً لمؤسسات أميركية رسمية، هو من كان وراء ذلك.

إقرأ أيضاً: حركة عدم الانحياز الجديدة.. الطريق الثالث في أزمة أوكرانيا

في مختبرات أوكرانيا وغيرها، وحتى مختبرات الولايات المتحدة والصين وروسيا، آلافٌ من العلماء يعملون في تلك المنطقة البحثية المروّعة. ماذا لو قرّر أحدهم ما سبق أن قرّره زميل آخر، وماذا لو قرّر عالم واحد لأسباب سياسية أو مالية، أو في لحظة جنون أو انتحار، أن يطلق الجدري أو الطاعون أو الكوليرا على نطاق واسع؟

لا أريد أن أفكّر في الإجابة.. لا أريد.

 

* كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً للرئيس المصري السابق عدلي منصور..

له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.

عضو مجلس جامعة طنطا، وعضو مجلس كليّة الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة.

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…