استيقظ العملاق الألمانيّ: إقرأوا “شيرادام”

مدة القراءة 6 د

في كتابه “مفتاح العالم والانتصار” الصادر في العام 1942، انتقد أستاذ العلوم السياسية الفرنسي أندريه شيرادام رئيس وزراء فرنسا جورج كليمنصو الذي وافق على استسلام ألمانيا في 1918 قبل احتلال جيوش الحلفاء أراضيها. واعتبر أنّ انتصار فرنسا في الحرب العالمية الأولى كان وهميّاً لأنّها خرجت من الحرب أضعف من ألمانيا اقتصادياً وماليّاً وديموغرافياً. وانتقد الموقف السلميّ للحلفاء وتخاذلهم عن وضع حدّ لهتلر الذي كان يتسلّح ويستعدّ للحرب منذ بداية ثلاثينيّات القرن الماضي. واعتبرهم مسؤولين أيضاً عن اندلاع الحرب العالمية الثانية.

في العام 1990 لم يقرأ صنّاع القرار في واشنطن كتاب شيرادام من جديد. أمّا قادة أوروبا فيعودون إليه اليوم، بمن فيهم الألمان.

أيقظت طموحات بوتين التوسّعيّة أوروبا الموحّدة. أعادت تذكير قادتها أنّ بناء السلام والازدهار يلزمه استعداد دائم للحرب. فعادت إلى كتاب شيرادام كي لا يتكرّر خطأ هتلر

في العام 1990 سقط الاتحاد السوفياتي. خسرت روسيا الحرب الباردة. انكفأت داخل جغرافيّتها المترامية على مساحة 17 مليون كيلومتر مربّع. لكنّها حافظت على عناصر قوّتها الأساسيّة: حقّ النقض في مجلس الأمن الدولي، الترسانة العسكرية التقليدية، والرؤوس النووية (ولو أنّها خفّضتها في اتفاق مع الأميركيين).

صحيح أنّها كانت منهكة اقتصادياً، لكنّها دولة غنيّة بالموارد الأوّليّة، وأبرزها النفط والغاز. حين وصل فلاديمير بوتين إلى السلطة (2000) كان يدرك جيّداً عناصر قوّة روسيا. وأضاف إليها النفط والغاز بعدما أحكم قبضته على القطاعين. أكثر من مرّة استخدم حقّ النقض في مجلس الأمن الدولي ليعيد التذكير بأنّ روسيا دولة عالميّة. وراح يقتنص الفرص ليستعيد نفوذه في العوالم الجيوسياسية المحيطة بروسيا في أوروبا الشرقية والقوقاز وآسيا الوسطى. وعندما سنحت له الفرصة قام بإنزال عسكري في سوريا وثبّت وجوده على البحر المتوسط. وها هو اليوم يخطو الخطوة الكبيرة لاستعادة أمجاد “روسيا القيصرية” وقوّة “روسيا السوفياتية” مهدّداً أوروبا والعالم بحرب شاملة، وربّما نووية.

ضعف أوروبا

ما لم يكن في حسبان “القيصر” الجديد ردّة الفعل الأوروبيّة والعالميّة. فهو راهن على ضعف الموقف الأوروبيّ الرافض للحرب وعلى انقسام في المعسكر الغربيّ المناهض له. فإذا بالتحالف بين ضفّتيْ الأطلسي يزداد قوّةً على الرغم من بعض التباين الذي يفرضه الواقع الجيوسياسي لكلّ ضفّة. وعادت دول الاتحاد الأوروبي إلى القول المأثور: “إن أردت السلام فاستعدّ للحرب”. يعيد العديد منها اليوم النظر في سياساته الدفاعية. وهو ما يُنبئ بتبدّلات جيوسياسية عميقة في أوروبا. وكان التبدّل الجيوسياسي الأكبر والأبرز في ألمانيا. فغداة غزو أوكرانيا أقرّت الحكومة الألمانية مضاعفة ميزانيّتها الدفاعية للعام 2022 بتخصيص 100 مليار يورو (112 مليار دولار) تشكّل 2.65% من الدخل القومي الألماني البالغ 4,218 مليار دولار. وبذلك تصبح الميزانيّة الدفاعية الثالثة عالميّاً (بعد الولايات المتحدة الأميركية والصين). وستصبح ألمانيا القوّة العسكرية الأولى في الاتحاد الأوروبي.

الهدف من هذه الميزانية هو بناء “واحد من أكثر الجيوش قوّة وقدرة على التصرّف في أوروبا خلال هذا العقد.. وأحد أفضل الجيوش تجهيزاً في أوروبا، لأنّ ذلك يتوافق مع أهميّة ألمانيا، ومسؤوليّتنا في أوروبا”، على حدّ قول وزير المال الألماني كريستيان ليندنر.

كتاب الأمن الجديد

بدأ هذا التبدّل الاستراتيجي في ألمانيا في تموز 2016 مع إقرار الحكومة الألمانية “الكتاب الأبيض من أجل الأمن السياسي الألماني ومستقبل القوات المسلّحة الألمانية” عقب ضمّ بوتين شبه جزيرة القرم (2014) وتصويت البريطانيين للخروج من الاتحاد الأوروبي (حزيران 2016).

تطرّق هذا الكتاب إلى الدور الذي يجب أن تلعبه ألمانيا في الحفاظ على الأمن العالمي، وإلى خطّة تطوير قدراتها العسكرية للاضطلاع بهذه المهمّة. تنطلق الاستراتيجية الجديدة من واقع ألمانيا الجيوسياسي. فهي، سياسياً، أحد أعمدة الاتحاد الأوروبي الأساسية، واقتصادياً، تحتلّ المركز الأول أوروبياً والرابع عالمياً، وديموغرافياً، هي الأكبر بين دول الاتّحاد (83 مليون نسمة)، وجغرافيّاً هي الدولة القارّيّة الأقوى في قلب أوروبا منذ أن وحّدها بيسمارك في العام 1871 تحت حكم غليوم الأول.

في العام 1990 لم يقرأ صنّاع القرار في واشنطن كتاب شيرادام من جديد. أمّا قادة أوروبا فيعودون إليه اليوم، بمن فيهم الألمان

ستعطي الميزانية العسكرية الضخمة، مُضافة إلى هذا الواقع الجيوسياسي، ألمانيا دوراً أكبر في قيادة الاتحاد الأوروبي (إلى جانب فرنسا)، وفي العالم. وقد دفع ذلك البعض إلى الخشية من استيقاظ العملاق الألماني خوفاً من أن يُعيد تسلّحه إحياء مشاريعه التوسّعيّة في أوروبا والعالم.

شكرا بوتين؟

منذ عقود تعيش أوروبا زمن الوحدة التي بدأت اقتصادية وتجارية وتحوّلت سياسيّة في إطار الاتحاد الأوروبي. تبرز أحياناً بعض التيارات الشوفينية التي ترفض الوحدة الأوروبية وتعتبرها انتهاكاً لسيادة البلدان واستقلالها. ولكنّها تيارات ضعيفة التمثيل في مجتمعاتها، الأمر الذي يؤكّد تمسّك الأوروبيين باتّحادهم الذي خلق سلاماً وازدهاراً في دولهم منذ سبعة عقود بعدما دمّرتها حربان عالميّتان. فاقتصاد الاتحاد الأوروبي هو الثاني عالمياً بعد الولايات المتحدة الأميركية في مختلف القطاعات الصناعيّة والتجاريّة والتكنولوجيّة والخدمات، والبلدان الأوروبيّة في مقدَّم البلدان المتطوّرة. ومستوى معيشة المواطن الأوروبيّ، على الرغم من التفاوت بين أعضاء الاتحاد الأوروبي، هو بين الأعلى عالمياً، إضافة إلى ما هنالك من إيجابيّات في هذا التجمّع الإقليمي الذي هو الأوّل عالمياً.

إقرأ أيضاً: بوتين الأوكراني: البحث اليائس عن قضيّة

ألمانيا في قلب الاتّحاد الأوروبيّ ولن تتخلّى عنه. وتهدف زيادة ميزانيّتها الدفاعيّة إلى تحصينه وليس إلى تهديد وحدته.

أيقظت طموحات بوتين التوسّعيّة أوروبا الموحّدة. أعادت تذكير قادتها أنّ بناء السلام والازدهار يلزمه استعداد دائم للحرب. فعادت إلى كتاب شيرادام كي لا يتكرّر خطأ هتلر. هل تأخّرت؟ لا يمكننا الإجابة اليوم. فالصراع في بداياته…

* أستاذ في الجامعة اللبنانية

مواضيع ذات صلة

تذكّروا كلام الوزير قبل 40 يوماً!

في حمأة الحديث عن تطوّرات لبنان وسوريا، بعد “تخييم” مستعمِرين في مارون الراس، وتوغّل الإسرائيليين في الجنوب السوري، حتى ملامسة مطار دمشق بالنار… وفي زحمة…

فرحة دمشق تبحث عن شمس العرب

سرديّة سياسية واحدة حكمت المنطقة على مدى قرن كامل: إمّا الدكتاتورية، وإمّا الإسلام الراديكالي. منذ باكورة الثنائيّات بين جمال عبد الناصر وسيّد قطب، مروراً بحافظ…

إيران تهدّد قطر… ليسمع الخليج؟

حذف المستشار السابق لفريق التفاوض النوويّ في حكومة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، محمد مرندي، تغريدة ضدّ قطر كان كتبها عبر منصّة “إكس”. تقول التغريدة: “إذا…

إيران “تصدّر” أوهامها إلى الحزب..

ما يدعو إلى القلق والخوف على لبنان قول نعيم قاسم الأمين العامّ الجديد لـ”الحزب” في خطابه الأخير إنّ “خسارة طريق الإمداد عبر سوريا مجرّد تفصيل”….