مخيف كلام جبران باسيل لدى تقديمه مرشّحي “التيّار الوطني الحر” في الانتخابات المقرّرة يوم 15 أيّار القادم. مخيف كلام صهر رئيس الجمهوريّة بالنسبة إلى مستقبل المسيحيين في لبنان لسبب في غاية البساطة. يعود السبب إلى أنّه يكشف عجزاً عن أيّ تطوّر في العقل العوني وهو جزء من العقل المسيحي اللبناني.
العجز عن أيّ تطوّر، عجز مستمرّ، لكن في اتّجاه مزيد من الانغلاق للمواطن اللبناني بغضّ النظر عن الطائفة أو المذهب اللذين ينتمي إليهما.
تكمن خطورة هذا العجز في أنّه يكشف غياب الحدّ الأدنى من الوعي لدى الشخص المتذاكي الذي اسمه جبران باسيل، وذلك منذ قرّر المسيحيون السير في ركاب ميشال عون في العام 1988. وصل ميشال عون إلى قصر بعبدا، للمرّة الأولى، كرئيس مؤقّت لحكومة لا مهمّة لديها سوى انتخاب رئيس للجمهوريّة خلفاً للرئيس أمين الجميّل الذي انتهت ولايته في 23 أيلول من تلك السنة. سلك العونيون وقتذاك طريق الانتحار البطيء الذي تُوّج بوثيقة مار مخايل في السادس من شباط 2006، مع علم مسبق لدى الطرفين الموقِّعين بأنّ هذه الوثيقة لا تعني سوى تكريس معادلة “السلاح يحمي الفساد”.
من يتمعّن في نصّ الخطاب الأخير لجبران باسيل يكتشف رغبة في الاستمرار في عملية الانتحار البطيء التي أخذ التيار العوني المسيحيين إليها
لو لم يكن الأمر كذلك، هل كان في استطاعة ميشال عون القائد السابق للجيش الوصول إلى موقع رئيس الجمهوريّة في 31 تشرين الأوّل 2016، وذلك بعد إخضاعه لكلّ أنواع التجارب؟ أُخضع لكلّ التجارب كي يتأكّد “حزب الله”، اللواء في “الحرس الثوري” الإيراني، أنّه مستعدّ لتوفير غطاء مسيحي لسلاح مذهبي في خدمة إيران ومشروعها التوسّعي في المنطقة.
الأكيد أنّ جبران باسيل لعب دوراً محوريّاً في إيصال ميشال عون إلى قصر بعبدا وضمان التزامه لعب الدور المطلوب منه لعبه إيرانيّاً. ليس الخطاب الأخير لجبران باسيل سوى تكريس لهذا النهج الذي يتجاهل مصلحة لبنان المتمثّلة في الروابط التي تجمع بينه وبين الدول العربيّة المحترمة، في مقدَّمها دول الخليج العربي.
الانتحار البطيء
من يتمعّن في نصّ الخطاب الأخير لجبران باسيل يكتشف رغبة في الاستمرار في عملية الانتحار البطيء التي أخذ التيار العوني المسيحيين إليها. الفارق أنّ المجتمعَيْن العربي والدولي كانا في العام 1990 على استعداد لمساعدة لبنان، فيما لبنان متروك لمصيره البائس في سنة 2022. ليس هناك في الوقت الحاضر من يفكّر في لبنان المعزول عربيّاً ودوليّاً. يعطي جبران باسيل دروساً في الأخلاق والشفافيّة في حين أنّه على لائحة العقوبات الأميركيّة بموجب قانون ماغنتسكي المتعلّق بالفساد. ثمّة سؤال واحد يمكن توجيهه إلى صهر رئيس الجمهوريّة الذي يمسك بوزارة الطاقة منذ العام 2008 عندما تولّاها آلان طابوريان الذي خلفه في العام 2009 باسيل نفسه. هذا السؤال هو الآتي: في حال كان صهر رئيس الجمهوريّة يعتبر نفسه مظلوماً، لماذا لا يتقدّم بدعوى في أميركا يطالب فيها برفع الظلم عنه؟
الجواب عن هذا السؤال في سؤال آخر: هل يخشى أن تؤدّي الدعوى إلى كشف السلطات الأميركية ما لديها من أدلّة أدّت إلى إدراج رئيس “التيّار الوطني الحر” في قائمة العقوبات؟
حروب عون
قليلٌ من التواضع وكثيرٌ من التراجع في استغباء اللبنانيين ضروريّان… ولكن ما العمل مع بيئة عونيّة ترفض استيعاب أنّ ميشال عون شنّ في 14 آذار 1989 ما سمّاه “حرب التحرير” لإخراج الجيش السوري من لبنان، لكنّ النتيجة كانت عكسيّة. كانت “حرب التحرير” حرباً على مناطق فيها أكثريّة مسلمة في لبنان، وصبّت في مصلحة الوجود العسكري السوري!
ما لبث ميشال عون أن شنّ “حرب الإلغاء” مستهدفاً “القوات اللبنانيّة” التي كانت لا تزال وقتذاك مجرّد ميليشيا لا حزباً سياسيّاً.
في حربيْه، في العامين 1989 و1990، كان ميشال عون يتّكل على دعم عراقي من صدّام حسين الذي أرسل إليه وإلى “القوات اللبنانية” دبّابات في الوقت ذاته. كانت المواجهة بين دبّابات عراقيّة وصلت عن طريق تركيا وسهّلت إسرائيل دخولها لبنان عبر ميناء جونية، بعد تصوير كلّ دبّابة وتسجيل رقمها، استناداً إلى الراحل بيار رزق (اسمه الحركي أكرم) مسؤول الأمن في “القوات اللبنانيّة” في تلك الأيّام.
لعب بيار رزق دور الوسيط مع النظام العراقي وقتذاك وتولّى إقناع الأتراك بتسهيل مرور الدبّابات من شمال العراق إلى ميناء تركي تمهيداً لإرسالها بحراً إلى ميشال عون و”القوات”… من دون اعتراض إسرائيلي.
استكمال 1988
لم يتعلّم جبران باسيل شيئاً من التاريخ الحديث للبنان ومن المصائب التي تسبّب بها ميشال عون… خصوصاً مصيبة تسهيل دخول الجيش السوري إلى قصر بعبدا ووزارة الدفاع اللبنانيّة في 13 تشرين الأوّل 1990. لو كان جبران باسيل يمتلك حدّاً أدنى من الصدق والشعور الإنساني، هل كان ذهب إلى دمشق وتجاهل الأسرى اللبنانيين في السجون السوريّة؟
كان جبران لا يزال صغيراً في السنّ، نسبيّاً، في العام 1988، لكنّ الأكيد أنّ ثمّة حقائق يرفض الاعتراف بها. بين هذه الحقائق أنّ لبنان لم يتحرّر من الوجود العسكري السوري لولا دماء رفيق الحريري، المعروف تماماً مَن قتله مع رفاقه، وعلى رأسهم باسل فليحان. دماء رفيق الحريري أعادت ميشال عون إلى لبنان، لكن ليس من أجل استكمال تحرير لبنان. عاد ميشال عون بموجب صفقة، لكن ليس مع صدّام حسين هذه المرّة، كي يستكمل عمليّة الانتحار المسيحي البطيء الذي يصبّ في إنهاء الوجود المسيحي في لبنان. هذه عمليّة بدأها في 1988 ويستكملها مع صهره الآن.
إقرأ أيضاً: ليأكل اللبنانيّون الصواريخ والمسيَّرات…
يبدو أنّ هذه العمليّة تمثّل نقطة النجاح الوحيدة في تاريخ ميشال عون منذ دخل الكليّة العسكرية وأصبح ضابطاً ثمّ رئيساً للجمهوريّة يوماً بفضل سلاح “حزب الله”… بعدما حاول وفشل عندما اعتمد على دبّابات صدّام.