سمير الجسر: الحضور الهادئ والفعّال..

مدة القراءة 5 د

سيفتقد المجلس النيابي الجديد مرجِعاً قانونيّاً وواحداً من أبرز مشرّعيه في العقدين الماضيين. سمير الجسر، الرجل الذي عاش في ظلال القانون وحفظ موادّه عن ظهر قلب منذ صباه، محامياً ونقيباً للمحامين، فوزيراً للعدل ثمّ للتربية، ثمّ نائباً عن مدينة طرابلس زُهاء سبعة عشر عاماً.

سليل أسرة طرابلسيّة عريقة قدّمت رجالاً أفذاذاً في الدين والعلم والأدب والسياسة والكياسة. فهو حفيد العالم الجليل محمد الجسر، رئيس مجلس النواب زمن الانتداب والمرشّح السنّيّ التاريخي لرئاسة الجمهورية، وابن المحامي ونقيب المحامين لمرّتين ونائب طرابلس عدنان الجسر، صاحب الأيادي البيضاء والسيرة العطرة التي لا يزال أريجها يفوح في أرجاء الفيحاء، فهو رئيس مجلس إدارة المستشفى الإسلامي الخيري لثلاثة عقود نذر خلالها نفسه لتطوير مرافقها وتحويلها إلى صرح طبّي في خدمة كلّ الناس في أحلك أزمنة الحرب.

سمير الجسر عاشق الفلسفة التي نال من بوّابتها شهادة الثانوية العامّة، كان صاحب فلسفة بسيطة في عمله السياسي والبرلماني لكنّها عميقة الأثر في معانيها

المشرِّع

إنّ تعريف النائب الناجح حسب التقاليد السياسية اللبنانية المعاصرة هو أنْ يكون نجماً تلفزيونياً سليط اللسان يقدح هذا ويذمّ ذاك، أو أنْ يكون رجل الخدمات وعرّاب المخالفات. بيد أنّ سمير الجسر كان نائباً كما يقول الكتاب، أي الدستور.

فالنائب مهمّته الأساسية التشريع، وهو ما ألزم به سمير الجسر نفسه وأبدع فيه. وخلال السنوات التي قضاها نائباً عن الأمّة، وليس عن طرابلس فقط، لا يوجد قانون أُقرّ إلّا وله بصمة فيه. وتشهد أروقة وغرف البرلمان في ساحة النجمة، كما زملاؤه النوّاب على اختلاف توجّهاتهم، على حضوره المميّز في اللجان النيابية. فعدا عن كونه رئيس لجنة الدفاع والداخلية والبلديات، فهو إمّا رئيس أو عضو في اللجان الفرعية المنبثقة عن اللجان المشتركة أو عن لجنة الإدارة والعدل، التي تُحال إليها القوانين التي تحتاج إلى الدرس والتصويب والتصحيح.

فلسفة بسيطة وعميقة

سمير الجسر عاشق الفلسفة التي نال من بوّابتها شهادة الثانوية العامّة، كان صاحب فلسفة بسيطة في عمله السياسي والبرلماني لكنّها عميقة الأثر في معانيها. فهو يعمل من أجل إرضاء ربّه وضميره أوّلاً وأخيراً، لذلك كان ملتزم أدبيّات دينه التزاماً دقيقاً، صادق مع نفسه لا يتوهّم ما ليس فيه، ويُدين نفسه قبل أنْ يُدين الآخرين، ولا يعطي نصيحة إلّا بقمّة الأدب حتى لو كان مَن يتوجّه إليه من أقلّ الناس. وعلى الرغم من ولَعِه بالثقافة والعلم إلّا أنّه كان يؤثر الأخلاق قبلهما، فهو دائم الترداد بأنّ العلم تحصيله ممكن، أمّا الأخلاق فهي الشيء الذي لا يمكن تحصيله أبداً.

كان يؤمن بأنّ من يملك الحُجّة لا تعوزُه الشتائم، وأنّ الكلمة الطيّبة هي أفْعل وأقوى وتؤتي ثمارها في كلّ حين بإذن ربّها. لذلك لم يسجّل عليه قطّ خلال مسيرته السياسية لثلاثة عقود قوله لأيّ لفظ جارح في كلماته أو حواراته التلفزيونية، أو الندوات أو الجولات الشعبية. وحتّى حينما كان يتعرّض لهجوم إعلامي شديد كان يردّ بجملة واحدة: “سامحكم الله”. وإنْ كان من شيء يُجمع عليه النوّاب على اختلاف طوائفهم ومشاربهم وانتماءاتهم الحزبية فهو الإشادة بالجسر وبأخلاقه العالية.

مشكلة سمير الجسر أنّه كان يعمل بصمت ولا يهوى إثارة الجدل، ولا يضع ما قام به في خانة الإنجازات، بل هي واجباته اتّجاه الناس التي يعتبر أنّه مقصّر فيها

الوفاء أوّلاً

ارتبطت مسيرة سمير الجسر السياسيّة بالرئيس رفيق الحريري منذ التقاه للمرّة الأولى مطلِع التسعينيّات. آمن بطروحاته وأفكاره، فصار واحداً من علماء الحريريّة السياسيّة التي استمرّت بعد اغتيال الرفيق مع نجله الرئيس سعد الحريري. وطوال هذه السنوات بقي وفيّاً للحريريّة، حتى إنّه كان النائب الأوّل من كتلة المستقبل الذي دعم قرار الحريري بتعليق العمل السياسي، لا بل وأثنى عليه. وهنا لا بدّ من ذِكر الواقعة التالية.

في أوائل العام 2018، حاول بعض غلاة الحريريّة إلزامه بالتقاعد السياسي عبر ترشيح نجله غسان، لكنْ فاتهم أنّ الخُلق الرفيع هو أهمّ ما أورثه لأبنائه، فما كان من غسان إلّا أنْ سارع الى إطلاق حملة والده الانتخابية بنفسه كي يقطع الطريق تماماً أمام هذا المخطّط. وقد أُحيط سمير الجسر عِلماً بهذه الواقعة بعد الانتخابات، لكنّه لم يفاتح بها الرئيس سعد الحريري مطلقاً، ولم يتكلّم عنها في أيّ اجتماع للكتلة.

العمل الاجتماعيّ

للعمل الاجتماعي مكانة خاصّة عند سمير الجسر، فهو دخل الحياة العامّة من خلال العمل في جمعية “مكارم الأخلاق الإسلامية” التي اُنتُخب رئيساً لها، وكان مسؤول العلاقات الخارجية في “التجمّع الوطني للعمل الاجتماعي” الذي قاد العمل المدني في طرابلس في سنوات الحرب الأهليّة. وأسّس أيضاً جمعية “يد بيد” الخيرية التي تنشط في التبّانة والميناء. ومن الأمور التي لا يعلمها سوى القلّة أنّه تكفّل بتعليم عدد من الأشخاص الذين توسّم فيهم المستقبل الباهر، في جامعات خاصّة وعلى نفقته الخاصّة.

إقرأ أيضاً: الشّجاع

مشكلة سمير الجسر أنّه كان يعمل بصمت ولا يهوى إثارة الجدل، ولا يضع ما قام به في خانة الإنجازات، بل هي واجباته اتّجاه الناس التي يعتبر أنّه مقصّر فيها، وإذا سُئل عن أكثر ما يفخر به يكون جوابه أنّه ابن عدنان الجسر.. وكفى.

مواضيع ذات صلة

فتح الله غولن: داعية… هزّ عرش إردوغان

ثمّة شخصيات إسلامية كثيرة في التاريخ توافَق الناس على تقديرها واحترامها، مع ظهور أصوات قليلة معترضة على نهجها أو سلوكها أو آرائها، لكنّها لم تتمكّن…

مصرع السنوار في مشهد لا يحبّه نتنياهو

مات يحيى السنوار، رئيس حركة حماس منذ اغتيال سلفه إسماعيل هنية في 31 تموز الماضي، وهو يقاتل الجيش الإسرائيلي، في إحدى أسخن جبهات القتال في…

الحزب بعد “السّيّد”: الرأي الآخر… ومشروع الدّولة

هنا محاولة لرسم بورتريه للأمين العامّ للحزب، بقلم كاتب عراقي، التقاه أكثر من مرّة، ويحاول في هذا النصّ أن يرسم عنه صورةً تبرز بعضاً من…

الياس خوري رحل إلى بيروته وتركنا لأشباحها

عن 76 عاماً، قضاها بين الورق والحبر والكتب والنضال من أجل تحرير فلسطين والإنسان العربي، غادرنا الروائي والقاصّ والناقد والأكاديمي الياس خوري، تاركاً فراغاً يصعب…