ودائع سورية تعرّض المصارف اللبنانية للعقوبات..

مدة القراءة 6 د

أعادت إلى الواجهة التسريبات المصرفية من بنك “Credit Suisse” السويسري قبل أيام، قضيةَ الأموال التي يملكها سياسيون فاسدون وأصحاب ثروات مشبوهة في سوريا.

ذكرت التسريبات، التي نُشرت في 20 من شباط الفائت، أنّ محمد مخلوف، خال رئيس النظام السوري، اُستُخدم واجهةً لصهره حافظ الأسد لسنوات، بينما استفاد من علاقاته السياسية في إمبراطورية تجارية تشمل التبغ والعقارات والمصارف والنفط.

بعد التسريبات، تعالت أصوات تطالب بالكشف عن “الأموال السورية القذرة” في جميع الدول، من بينها سويسرا ولبنان، التي كانت لسنوات ملاذاً آمناً لإخفاء ثروة الأسد، بسرّيّة عالية جعلتها وجهة جذّابة للعديد من الأفراد.

يُعرَف لبنان منذ عقود باسم “سويسرا الشرق الأوسط” بسبب قوانينه الصارمة المتعلّقة بالسرّية المصرفية. وهو ما دفع عدداً كبيراً من السوريين إلى وضع أموالهم في المصارف اللبنانية. لكن مع تعمّق الأزمة الاقتصادية والديون في البلاد، وتداعيات الأزمة المالية والمصرفية اللبنانية، باتت أموال السوريين وغيرهم عالقة أيضاً في المصارف اللبنانية.

بحسب مصادر مطّلعة، فإنّ معظم الأموال السورية المتبقّية في المصارف اللبنانية تعود إلى الفئة السورية المحاصَرة بالعقوبات والمتورّطة في سرقة أموال السوريين

فمَن يملك الأموال السورية المحتجَزة في المصارف اللبنانية؟ وهل يمكن استعادتها؟

في بداية العام الماضي ألقى الديكتاتور السوري بشار الأسد باللائمة عن المشاكل الاقتصادية المستمرّة التي تعاني منها بلاده على القيود التي فُرضت على أموالٍ لمودعين سوريّين في لبنان قال إنّها “تبلغ ما بين 20 مليار دولار و42 مليار دولار”، وإنّها باتت مجهولةَ المصير في ظلِّ الأزمةِ الاقتصادية التي يعيشُها لبنان.

منذ ذلك الوقت لا تكاد تمرّ مناسبة إلا ويُلقي الأسد الضوء على ما يصفه بقضية أموال السوريين في المصارف اللبنانية، مؤكّداً أنّ السبب الجوهري لتدهور البلاد يعود إلى حجز هذه الودائع في البنوك اللبنانية. هكذا يرمي مسؤوليّة نتائج الحرب التي شنّها وعسكره في البلاد على المصارف اللبنانية.

لكنّ تقديرات لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (إسكوا) تشير إلى أنّ الأزمة الاقتصادية وخسائر رأس المال في سوريا سببها الحرب التي شنّها الأسد على السوريين، والتي وصلت خسائر البلاد جرّاءها إلى نحو 442.5 مليار دولار.

لطالما استخدم رجال الأعمال السوريون، وخاصة المقرّبين من النظام السوري، البنوك اللبنانية لعدد من الأسباب، من بينها تجنّب العقوبات الدولية وغيرها من القيود، إضافة إلى قوانين السريّة المصرفية الصارمة في البلد والإعفاءات الضريبية.

 

من يملك المليارات المفقودة؟

منذ العام 2011، أصدرت الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي سلسلة عقوبات اقتصادية، ولاحقت قضائيّاً عدداً كبيراً من الشخصيات والكيانات السورية بتهم مختلفة تراوحت بين دعم النظام السوري واختلاس أموال عامّة وغسل الأموال والتهرّب الضريبي.

تتمثّل العقوبات الاقتصادية، بشكل عامّ، في تجميد الأموال المنقولة وغير المنقولة للأشخاص الذين صدرت بحقّهم عقوبات في البلد الذي أصدر العقوبة، ومنع السفر إليه وممارسة أيّ نشاط تجاري واستثماري فيه، ومنع أيّ شخص في الدولة التي فرضت العقوبة من أيّ تعامل تجاري أو مالي مع الشخص المُدرَج على لائحة العقوبات.

دفعت هذه العقوبات الشخصيات والكيانات السورية المعاقَبة إلى إيجاد طرق جديدة للتحايل عليها، من بينها استخدام أشخاص واجهاتٍ للقيام بالأعمال التجارية، أو تأسيس شركات وهمية في بلدان أخرى لا توجد فيها شفافيّة ولا تلتزم أساساً بالعقوبات، وصولاً إلى استخدام مصارف لبنان ودول الجوار السوري لإجراء التعاملات الماليّة.

يشير الدكتور أسامة القاضي، رئيس مجموعة عمل “اقتصاد سوريا”، إلى أنّ الأموال السورية المودعة حالياً في البنوك اللبنانية هي معظمها لتجّار وصناعيين، ومنهم مقرّبون من النظام السوري”.

 

السرّيّة المصرفيّة

على الرغم من أنّ أرقام الودائع السورية في المصارف اللبنانية ليست واضحة، إلا أنّ رئيس لجنة الرقابة على المصارف سابقاً، الدكتور سمير حمّود، أعلن في تصريحات سابقة أنّ الودائع السورية في المصارف اللبنانية تُقدّر بحوالي ثمانية مليارات دولار. خلافاً للرقم الضخم الذي أعلنه الأسد (بين 20 و42 مليار دولار).

كلام الصورة: “يسقط حكم المصرف” من أشهر الشعارات التي ردّدها المتظاهرون منذ بدء الاحتجاجات المناهضة للحكومة في السابع عشر من تشرين الأول 2019.

 

يوافق الدكتور عبد الحكيم المصري، وزير الاقتصاد في الحكومة السورية المؤقّتة، في اتصال هاتفي مع “أساس”، على صحّة رقم حجم الودائع السورية في المصارف اللبنانية، الذي علنه الأسد. لكنّه يشير إلى أنّ هذه الأموال هي لرجال أعمال وسياسيين سوريين فاسدين وأصحاب ثروات مشبوهة مقرّبين من بشار الأسد. موضحاً أنّ النظام السوري لجأ عبر وكلائه وشبكاته الاقتصادية إلى عدد من المصارف اللبنانية لتخبئة أمواله التي نهبها من السوريين، في محاولة منه للالتفاف على العقوبات الدولية، كون هذه المصارف ترتبط بحزب الله وداعمي الأسد في لبنان وتعمل وفق سرّيّة مصرفية.

بحسب مصادر مطّلعة، فإنّ معظم الأموال السورية المتبقّية في المصارف اللبنانية تعود إلى الفئة السورية المحاصَرة بالعقوبات والمتورّطة في سرقة أموال السوريين والتي لم تجرؤ على تحريك ودائعها خوفاً من احتجازها، وأنّ المطالبة اليوم بهذه الأموال من قبل النظام السوري هي لتحصيل جزء منها خوفاً من تسريبات جديدة تكشف مَن يملكها ولمَن تعود.

كلام الصورة: الليرة اللبنانية سجّلت مطلع 2022 انهياراً قياسياً جديداً في السوق السوداء التي تتحكّم بالقيمة الفعليّة للعملة.

 

الأسوأ لم يأتِ بعد؟

بحسب تقرير سابق نشره “مرصد الأزمة بالجامعة الأميركية في لبنان”، فإنّ الأسوأ لم يأتِ بعد، وإنّ البلاد على شفا انهيار شامل لن يطول الاقتصاد وحده. ويشير التقرير إلى أنّ السبب الرئيسي للأزمة هو عدم وجود سياسة متكاملة لمواجهة الأزمة الاقتصادية، إلى جانب غياب الإرادة السياسية الحقيقية للحلّ والمواجهة.

إقرأ أيضاً: الأسد يبتزّنا بـ”ودائع السوريّين” بعد تحسّسه قرب وقف الدعم

وبحسب الخبراء، فعلى الرغم من الانهيار الاقتصادي، قد يحصل المودعون السوريون المقرّبون من النظام السوري والمعاقبون دولياً في نهاية المطاف على جزء صغير من أموالهم بقرار سياسي. إلا أنّ هذه الأموال ستضع النظام المصرفي في لبنان أمام عقوبات دولية بسبب تعامل هذه المصارف مع ما يصفه خبراء بـ”الأموال السورية القذرة”، ما قد يتسبّب بالمزيد من التدهور للنظام المصرفي اللبناني، وقد يؤدّي إلى فرض عقوبات على المصارف التي ستتعاون مع هؤلاء.

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…