غزوة معرض الكتاب… والفراغ السنّيّ

مدة القراءة 5 د

في ظلّ عزلته العربيّة والدوليّة، وفي ظلّ الحرب الأوكرانيّة، وانشغال الكون بسعر برميل النفط وسعر الغاز، تحوّل لبنان بلداً منسيّاً، أكثر من أيّ وقت. ليس مَن يبالي بالمأساة التي حلّت بالبلد الصغير الذي فَقَد كلّ المقوّمات التي قام عليها تاريخيّاً، بما في ذلك انتماء شعبه إلى ثقافة الحياة.

ليس الاعتداء الذي نفّذه مناصرو “حزب الله” على “معرض الكتاب العربي” سوى فصل آخر، وليس الأخير، من الانقلاب الذي يُنفّذ على مراحل لتكريس بيروت مدينة إيرانيّة على البحر المتوسّط.

لم يكن تنظيم النادي الثقافي العربي لمعرض الكتاب في هذا التوقيت بالذات سوى تعبير آخر عن الفراغ السنّيّ

ما حصل تعبير عن حقد لا حدود له على بيروت وعلى لبنان الفرح والانفتاح على كلّ ما حضاري في هذا العالم. لبنان “جمهوريّة رأس بيروت”، كما سمّاها سمير صنبر، التي كانت عاصمتها الجامعة الأميركيّة ومطعم فيصل وكلّ ما تفرّع عنهما من تنوّع ثقافي وسياسي مرتبط إلى حدّ كبير بأحداث المنطقة وما يدور فيها من تجاذبات استطاع لبنان البقاء، إلى حدّ معقول، خارجها طويلاً قبل العام 1975. كانت “جمهوريّة رأس بيروت” جمهوريّة لا يسأل فيها أحد الآخر عن ديانته أو مذهبه… كان “النادي الثقافي العربي”، الذي ينظّم معرض الكتاب منذ ما يزيد على ستّين عاماً، جزءاً من “جمهوريّة رأس بيروت”.

كذلك، ما حصل عند الواجهة البحريّة لبيروت ليس سوى استمرار لجريمة تُرتكب في حقّ لبنان تنتظر اليوم الذي تعلن فيه إيران رسميّاً أنّ البلد صار تابعاً لها بموجب اتّفاقات رسميّة من نوع معاهدة دفاعية طُرحت في طهران في أثناء زيارة الرئيس سعد الحريري لها عندما كان رئيساً لمجلس الوزراء في عهد الرئيس ميشال سليمان. وقتذاك، في العام 2010 أيضاً، زار الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد لبنان، بُعيد زيارة سعد الحريري لطهران، وطرح مجدّداً في أثناء وجوده في قصر بعبدا موضوع المعاهدة الدفاعيّة. قطع سعد الحريري الطريق على طرح أحمدي نجاد. كلّفه ذلك تكليف “حزب الله” ميشال عون وجبران باسيل التخلّص من حكومته وفرض حكومة “القمصان السود” برئاسة نجيب ميقاتي. وجد ميقاتي في تلك المرحلة، التي سبقت اندلاع الثورة الشعبيّة في سوريا، نفسه مجبراً على تشكيل حكومة “حزب الله”. ما أجبره على ذلك كان النظام السوري ممثّلاً ببشّار الأسد شخصيّاً الذي مارس كلّ أنواع الضغوط على آل ميقاتي وليس على نجيب وحده.

ليس الاعتداء على “معرض الكتاب العربي” وعلى كلّ مَن ينادي بشعار “بيروت حرّة” وبالانتهاء من الاحتلال الإيراني سوى امتداد لغزوة المدينة والجبل في أيّار 2008. لا يستطيع “حزب الله” القبول بوجود لبنانيين ما زالوا يقاومون الاحتلال الإيراني ويرفضونه ويؤكّدون بالغناء والموسيقى أنّ بيروت، بروحها الحقيقيّة، ترفض الهزيمة، وأنّها لا تزال حيّة تُرزق. يرفض هؤلاء اللبنانيون خصوصاً تغلُّب ثقافة الموت على ثقافة الحياة لا أكثر.

يكمن الخوف، كلّ الخوف، في المرحلة القادمة، في استغلال إيران لتحوُّل لبنان إلى بلد منسيّ أكثر، كي تذهب بعيداً في مشروعها. ثمّة عوامل عدّة تسعى “الجمهوريّة الإسلاميّة” إلى الاستفادة منها. بين هذه العوامل احتمال التوصّل إلى صفقة مع الإدارة الأميركيّة التي جعلها المغامر الخطر الذي اسمه فلاديمير بوتين تفقد توازنها. لا هاجس للإدارة الأميركيّة، التي أرسلت مبعوثين لها إلى فنزويلا، سوى إيجاد بدائل من النفط والغاز الروسيّيْن. تبدو إيران مستعدّة، من زاوية النفط والغاز، للدخول على خط استرضاء “الشيطان الأكبر” في مقابل ضمانات معيّنة تشمل عدم التعرّض لمشروعها التوسّعي في المنطقة والإفراج عن مبالغ ماليّة كبيرة.

ليس مثل هذا الإفراج عن هذه المبالغ الماليّة الكبيرة، التي وعدت بها إدارة جو بايدن “الجمهوريّة الإسلاميّة”، سوى خطأ قاتل آخر ترتكبه الولايات المتّحدة في تعاطيها مع قضايا الشرق الأوسط والخليج وكلّ ما له علاقة بإيران بالذات. مثل هذه المبالغ ستخدم المجهود الحربي لـ”الجمهوريّة الإسلاميّة” وأدواتها في سوريا ولبنان. بكلام أوضح، ستخدم مخطّط “حزب الله” الذي يصبّ في القضاء كلّيّاً على بيروت وكلّ ما مثّلته المدينة على الصعيدين اللبناني والعربي في آن.

مرّة أخرى، هناك خوف على لبنان، خصوصاً أن ليس فيه مرجعيّة سياسيّة غير مرجعيّة “حزب الله” المستعدّ أكثر من أيّ وقت لتأكيد أنّ “الجمهوريّة الإسلاميّة” وُجدت في لبنان كي تبقى فيه وتسيطر عليه… وأنّ الاحتلال الإيراني أكثر ذكاء ودهاء من الاحتلال السوري.

يُفترض في اللبنانيين التنبّه إلى أنّه لا توجد أيّ حماية إقليميّة أو دوليّة، من أيّ نوع، لهم ولبلدهم في هذه الأيّام المصيريّة التي يمرّ فيها العالم. ما حصل في معرض بيروت للكتاب ليس سوى نموذج لِما يضمره “حزب الله”، ومن خلفه إيران، للبنان ولبيروت تحديداً في وقت يجد البلد نفسه على أبواب انتخابات نيابيّة ليس ما يشير إلى أنّها ستغيّر شيئاً… باستثناء تأكيد الفراغ السنّيّ على كلّ المستويات.

إقرأ أيضاً: روبوت إكسبو دبي.. وجنرال معرض بيروت

لم يكن تنظيم النادي الثقافي العربي لمعرض الكتاب في هذا التوقيت بالذات سوى تعبير آخر عن الفراغ السنّيّ. لم يوجد مَن يتوقّف لحظة أمام المرآة ويسأل نفسه لماذا معرض كتاب في بيروت في غير موعده السنوي (في الشهر الأخير من السنة عادة)، فيما هناك غياب عربي عنه؟

كان طبيعياً أن تجد إيران أنّ هناك فراغاً لا بدّ من ملئه… وإنْ بقوّة السلاح غير الشرعي والعصيّ والهراوات والغرائز المذهبيّة وصور شخص مثل قاسم سليماني…

مواضيع ذات صلة

الاستكبار النّخبويّ من أسباب سقوط الدّيمقراطيّين

“يعيش المثقّف على مقهى ريش… محفلط مزفلط كثير الكلام عديم الممارسة عدوّ الزحام… بكم كلمة فاضية وكم اصطلاح يفبرك حلول المشاكل أوام… يعيش أهل بلدي…

ياسر عرفات… عبقرية الحضور في الحياة والموت

كأنه لا يزال حيّاً، هو هكذا في حواراتنا التي لا تنقطع حول كل ما يجري في حياتنا، ولا حوار من ملايين الحوارات التي تجري على…

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…