روبوت إكسبو دبي.. وجنرال معرض بيروت

مدة القراءة 5 د

المقارنة ليست ظالمة. هي عادلة بقدر ما كان لبنان جوهرة العرب، وصار قطعة بلاستيك مهترئة لا تصلح لشيء.

في شهر واحد، عشنا “إكسبو دبي”، الذي أعاد تعريف “الإمساك بالزمن”، وخلط استثمار الحاضر، بالإقامة في المستقبل: آلات من الزمن الآتي، روبوتات، ألعاب، قصص وتاريخ، وأنشطة رياضية وترفيهية…

في “إكسبو دبي”، نضح الإناء بما فيه، وبما في قيادة الإمارات وجيرانها وأشقّائها من رغبة عارمة في الانتماء إلى المستقبل، في النظر إلى الآتي، والتخفّف من أحمال الماضي، إلا ما نبتت منه أغصان خضراء وارفة نستظلّ بها من تراث وفائدة

ثمّ جاء “معرض بيروت العربي الدولي للكتاب”. اسم طويل أشبه بألقاب الأمراء والملوك. “عربي ودولي”. في الادّعاء شيء من الذكريات. رائحة حدث كان هنا، وانتهى. صور في الذاكرة من زمن مضى، حين كانت بيروت عربية، ودولية. كوزموبوليتية نقول. كما مدن البحر المتوسط، بالمرافىء التي يحطّ فيها كلّ عابر وزائر ومقيم، والمقيمون والسكّان من كلّ الطوائف والبلاد.

راح المرفأ، دمّره الفساد مخلوطاً بالاعتداء وظلال الحروب السرّيّة الجديدة. والواجهة البحرية التي اعتادت استقبال معرض الكتاب باتت مهجورة. أقفلت معظم مطاعمها وحاناتها. غادر زوّارها، لبنانيين وعرباً و”دوليين”. ولم يبقَ من بيروت الكوزموبوليتية إلا صورة الجنرال، وبعض الغاضبين من الصورة، ممّن لا حول لهم ولا قوّة.

وكما يحصل حين تصفر رياح الهجران في الأبنية العالية، التي تحمل ذاكرة الألق والبهرجة، وكما تتحوّل المسارح إلى مرتع للفئران حين يغيب المسرحيّون والممثّلون والمشاهدون وتتغيّر الأزمان، وكما تقيم الأشباح في الشوارع التي يهجرها أهلها على عجلٍ، وطويلاً… كان لا بدّ لمعرض الكتاب “العربي والدولي” أن تتكوكأ عليه ذئاب الأمر الواقع.

يموت الجنرالات وفي أنفسهم شيءٌ من “حتّى” الثقافة. يشعر المسلّح دوماً بالدونيّة أمام المثقّف. يتحسّس مسدّسه حين يسمع كلمة مثقّف، منذ فجر السلطة، إلى مغرب العسكر. يعرف المُقاتل أنّ الكاتبَ أو القارىءَ يتفوّق عليه في مكان ما. ويرفض هذه الفكرة، هذه الواقعة، هذه الحقيقة. يكرهها ولا يعترف بها. لكنّه “يهدس” بها. فيتحسّس المسلّح مسدّسه أمام المثقّف، وإن صار اسمه “ناشطاً”. هو نفسه “المثقّف العضويّ”، أو أيّاً تكن التسمية.

جاء مناصرو الجنرال ليقولوا لأهل الثقافة والكتب: “ونحن أيضاً لنا الثقافة.. ونريد حصّتنا من المعرض”. كأنّي بهم يقولون: “نحن المحرومون”، أو: “نريد المثالثة في الثقافة”

في “إكسبو دبي”، نضح الإناء بما فيه، وبما في قيادة الإمارات وجيرانها وأشقّائها من رغبة عارمة في الانتماء إلى المستقبل، في النظر إلى الآتي، والتخفّف من أحمال الماضي، إلا ما نبتت منه أغصان خضراء وارفة نستظلّ بها من تراث وفائدة.

كذلك في معرض بيروت، نضح الإناء بما في القبائل اللبنانية التافهة من انتماء إلى العصبيّات المريضة. في الأمس كان محمود درويش هنا يوقّع كتاباً، وشكوى من تقدّم مبيعات كتب الطبخ والفلك على مبيعات كتب الرواية والشعر والتاريخ. كان الخلاف داخل أغلفة الكتب. وكانت المرحلة الاستهلاكية ترخي بظلالها على شراء كتب المأكولات والخرافات الشعبية. أمّا اليوم، فلا كتاب. وحده الرئيس فؤاد السنيورة وقّع كتاباً وراجت النكتة أنّ عنوانه “يوميّات لصّ”. فيما رشح من المعرض خلاف حول صورة الجنرال الإيراني.

جاء مناصرو الجنرال ليقولوا لأهل الثقافة والكتب: “ونحن أيضاً لنا الثقافة.. ونريد حصّتنا من المعرض”. كأنّي بهم يقولون: “نحن المحرومون”، أو: “نريد المثالثة في الثقافة”.

غاب عن بالهم أنّ شعراء الجنوب، الشيعة تحديداً، أبناء جبل عامل لتحديد أكثر مناطقية وعصبيةً، وأبناء القرى المحتلّة، عباس بيضون وشوقي بزيع ومحمد العبدالله وغيرهم، هم الذين صنعوا معظم المشهد الثقافي في الثمانينيّات والتسعينيّات.. وإلى اليوم ربّما. أمّا أتباع الجنرال الأجنبي فلم يصنعوا رواية واحدة، ولا أنتجوا قصيدة، ولا لعبوا مسرحيّة، ولا قدّموا كتاباً عليه القدر والقيمة، خارج كتب الملائكة التي قاتلت في الحرب مع أنصاف الآلهة، وكتب تعظيم وتفخيم الجنرالات والمشايخ.

جاء الجنرال، واعتلى المشهد، بحقد واضح، وبكراهية عارمة، للثقافة والأدب والكتب والأدباء. وجاء أحمق مثلهم يريد الاعتراض على الصورة، بعصبيّة وافتعال لا يقلّان تفاهةً عن أتباع الجنرال.

غرقت بيروت في عصبيّات سكّانها وأهلها. وبدت مدينةً متحجّرة، تسرح فيها كلاب الماضي، وتنهش لحم الحاضر… في حين كانت طيور المستقبل تحلّق في “إكسبو دبي”، لتقول إنّ العالم تغيّر وربّما إلى غير رجعة، وإنّ التاريخ لا يتّسع للحمقى والمقيمين في الحقد داخل عاصمة على المتوسّط، كانت فيما مضى بوصلة المستقبل، وأمنية الحاسدين من قادة البلاد المجاورة، وحلماً عربيّاً تبيّن أنّه ليس عصيّاً على النسخ بل والتفوّق.

إقرأ أيضاً: غزوة معرض الكتاب… والفراغ السنّيّ

بين معرضين، وبلدين، يمكن القول إنّ هناك عالمين كاملين، واحدٌ يمسك بـ”اللحظة” ويحاول الذهاب بها إلى أقصى ما يمكن من احتمالات التطوّر والحداثة، وآخر خلفيّ مهملٌ، يشبه مدن “العشوائيّات”، حيث خليط المجرمين والبائسين والفتوّات المتسلّطين، فوق أرض محروقة بالوهم.

بين هذين العالمين، تبدو الصورة واضحة.

هل ضروريٌّ القول إنّنا نقيم في الجانب الخطأ من التاريخ وربما من الجغرافيا أيضاً؟

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…