لا أريد التعظيم من شأن ظهور صورة ضخمة للجنرال الإيراني قاسم سليماني في معرض بيروت للكتاب العربي والدولي. لكنّها واقعةٌ لا يصحّ تجاهلها. فالجنرال سليماني ليس مثقّفاً ولا كاتباً ولا مجتهداً في الشأن الإسلامي مثلاً. ونحن نعرف جيّداً المرارة التي أحسَّ بها قائد حزب الله وجمهوره بعد أن قتله الأميركيون.
فخطاب حسن نصر الله الشهير، الذي يعرض فيه على القَدَر أنّه كان يودّ أن يفتدي الجنرال بنفسه أو يكون بديلاً عنه، يدلّ على مدى حزن جمهور الحزب وقيادته وغضبهم لفَقْد الجنرال المنتصر. إنّما هذا شيء وتصدير صورة الجنرال في معرض الكتاب العربي (وليس الإيراني) شيء آخر.
يذهب اللبنانيون إلى الانتخابات. أمّا الحزب الإلهي فتأتي الانتخابات إليه لأنّ المولى عزّ وجلّ هو الذي اختاره حزباً له
طبعاً لذلك دلالات، البارز منها للعيان إظهار الغَلَبة على اللبنانيين الذين لا يحبّون الجنرال وما عادوا يحبّون إيران. والغلبة التي أقصدها ما ظهرت في صورة سليماني للإغاظة والقهر فقط، بل ظهرت من قبل في أحياء ضاحية بيروت الجنوبية وخارجها. وأين نحن من العراضات المتنوّعة على طريق مطار بيروت لمختلف الصور والتماثيل الإيرانية والمتأيرنة؟!
لكنْ إلى جانب دلالة التحدّي بالصورة على الغَلَبة، هناك الدلالة الأخطر التي لا تُذكَرُ عادةً، وهي هذه “الثقافة الدينية الجديدة” التي يعرضها الحزب وأنصاره من سنوات. وهي في معظم مظاهرها ليست لها علاقة وثيقة بالدين أو بالتشيّع. لكنّها في كلّ تفاصيلها تلبس لَبوساً دينيّاً بحيث يُعتبر الاحتجاج أو التبرّؤ والاستنكار نوعاً من الاعتداء على المذهب (!) ولِمَن يجادل في ذلك نذكر دعاوى الحزب وأنصاره أمام القضاء اللبناني، ضدّ السيّد علي الأمين، وضدّ الدكتور فارس سعيد. والتهمة هي “الاعتداء على الشعائر والمقدّسات” أو ما شابه. ولا أعرِف أحداً في لبنان أعرَف بالإسلام وبالتشيّع من السيّد الأمين، فكيف يسيء إليهما؟! ونحن نعرف أيضاً وأيضاً أنّ الحزب المسلَّح يعولُ فئةً من اللبنانيين، معظمهم من الطائفة الشيعية، لكنّ منهم سُنّة بل ومسيحيين: الشيعة منهم يختلط لديهم الاعتبار المنفعي بالاعتبار الديني، ويعتصم الآخرون بشعارات المقاومة.
ثقافة التقديس
نعم، وبدون تردّد، هناك ثقافة جديدة مذهبية وتقديسيّة تنتشر لدى فئة معتبَرة من شيعة لبنان وشيعة البحرين والكويت، وبالطبع العراق. وإذا كانت “العصبيّة” أحد الدوافع أو المظاهر، فالدافع الآخر والأقوى هو الثقافة المذهبية الجديدة التي يجري التركيز فيها على انفصال هؤلاء في دينهم وطائفتهم وثقافتهم عن بقيّة اللبنانيين. وما دام الأمر كذلك، فإنّ المعارضة السياسية للحزب لا تصبح في نظر الأنصار والعامّة خيانةً وحسب، كما يقول زعيم الحزب دائماً، بل تصبح أيضاً اعتداءً على الدين، وبالدرجة الأولى. لقد نبّهنا إلى ذلك وضّاح شرارة مبكراً جدّاً في كتابه: “دولة حزب الله” الذي صدر عام 1994.
لقد كنّا نسخر من بعض السياسيين والإعلاميين خلال الحرب الأهليّة عندما كانوا يعيِّروننا بأنّنا نقدّم الولاء للعروبة على الولاء الوطني، لأنّ العروبة ليست عقيدةً ولا يمكن أن تكون. إنّما ماذا نقول الآن في مواجهة هذه الصنميّة الجديدة التي تصبح فيها الصورة جزءاً من الدين، وتُستخدَم في المعترك السياسي؟! كيف يجرؤ شيعيٌّ على الترشّح في مواجهة مرشّحي الحزب، ما دام سيُتّهم ليس بخيانة المقاومة فقط، بل وبخيانة الإسلام (الشيعي) أيضاً؟! ثمّ ماذا تعني الانتخابات لهذه الفئة التي يصبح فيها الولاء المطلق لِما يشير به الزعيم في الدين والدنيا؟!
ثقافة القتل والإجرام
مرّةً أُخرى وفي الحرب الأهليّة كان الولاء للجبهة اللبنانية، مثلاً، معياراً لصدق مسيحيّة هذا السياسي أو ذاك. لكنّ ذلك مضى وانقضى. ونحن الآن في ظروفٍ مغايرةٍ تماماً. وقد كتبتُ مراراً وكتب غيري في عدم جواز “تمسيح” جريمة المرفأ لأنّها ليست كذلك بالفعل. وكذلك الأمر مع سليماني أو عماد مغنية أو أيّ قتيل في حروب إيران المتكاثرة. لكنّ هذا “التقديس” المتصاعد لكلّ شيء يريده الإيراني أو زعيم الحزب المسلَّح، يجعل من الانتخابات مسرحيّةً هزليّةً مثل الانتخابات الإيرانية أو أسوأ.
وقد سمعتُ خلال عقدٍ ونيّف، وبعد اغتيال أو قتل هذا المعارض أو ذاك، وآخرهم لقمان سليم، مَن يقول بدون خفاء: “ما كان واجباً وطنيّاً فقط، بل هو واجبٌ ديني”.
نعم نحن في بلاءٍ عظيمٍ في ديننا ودنيانا ووطننا. ولا أعرف أحداً من العلماء المعتبَرين في لبنان والعراق وإيران مَن يتصدّى علناً لثقافة التقديس المتعصّب هذا. لقد حملنا جميعاً على ثقافة القتل والإجرام والتقديس لدى القاعدة وداعش وأمثالهما، فمَن لِثقافة التصنيم باسم الدين؟
يذهب اللبنانيون إلى الانتخابات. أمّا الحزب الإلهي فتأتي الانتخابات إليه لأنّ المولى عزّ وجلّ هو الذي اختاره حزباً له.
الحريري والانتخابات
لنذهب باتجاهٍ آخر تماماً، لكنّه أمرٌ له علاقةٌ بالانتخابات. قال سعد الحريري إنّه لا يترشّح ولا يرشِّح، والناس أحرار في خياراتهم. ومفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان طلب من الجميع التوجّه للانتخابات. لكن كلّما أظهر شخصٌ اهتمامه بالانتخاب أو الترشّح أو بجمع كلمة الناس، تنطلق عليه حملة شعواء، كما حصل مع الرئيس السنيورة ومع الدكتور مصطفى علّوش وآخرين. ومعنى هذا أنّه ما دام سعد الحريري زعيم تيار المستقبل لن يذهب إلى الانتخابات، فلا ينبغي أن يذهب إليها أحد. طيّب، ماذا يفعل المليون ونصف المليون سُنّيّ؟ هل يتوقّفون عن المشاركة في الحياة الوطنية لأنّ الزعيم لا يشارك؟
هكذا فإنّ الرئيس سعد الحريري الذي كان في عمله السياسي وتحالفاته وترشيحاته “شديد الوطأة” على أهل السُنّة وعلى كلّ الوطنيين، يريد أن يبقى “حاجزاً” عليهم في غيبته الاختيارية بالحيلولة دون ممارستهم حقَّهم في العيش الوطني الطبيعي.
في العقيدة الشيعية هناك غيبتان، صغرى وكبرى. وما صبر الإيرانيون وأنصارهم على الكبرى ولا انتظروها، وها هم يملأون الأرض صخباً وحضوراً، أفتريد لنا أيّها الأخ الأكبر أن نغيب أكثر بعدما استلب منّا عون ونصر الله معظم حضورنا أيّام رئاساتك المجيدة؟
سيقول قائل: لكنّ الانتخابات لن تغيّر شيئاً ما دام الزعيم المسلَّح سائداً ومسيطراً. وهذا ممكن، لكنْ لماذا نسهّل عليه السيطرة بغيابنا بأمرٍ من زعيم تيار المستقبل. ثمّ إنّ الزعيم المسلَّح لن يقتنع بغيابنا أو استنكافنا، بل سيستلب منّا باختراقاته كثيرين، وسيعيّن لنا نوّاباً ووزراء ورؤساء مزوّرين مثلما فعل من قبل ويفعل.
إقرأ أيضاً: الشّجاع
الحضور الكثيف في الانتخابات هو الواجب والحقّ، بحيث لا نغيب ولا نُغيَّب. وفي النتيجة “يسوانا ما يسوى سائر اللبنانيين”، كما يُقال.
وأخيراً تحيّة لموقع “أساس” لهذه الصورة الزاهية التي عرضوها للدكتور مصطفى علوش، وليت عندنا مئة مثله ممّن يعملون بقناعاتهم ولا تُخضعهم الاعتبارات الأُخرى التي تأباها إنسانيّة الإنسان وكرامته.
عقبتان إذن أمام الانتخابات، الأولى ثقافية وتربوية وعصبيّة ترتدي رداء الدين، والأُخرى مزاجيّة ونرجسيّة تضرّ ولا تنفع:
إذا كنتُ ذا رأْيٍ فكن ذا عزيمةٍ فإنّ فساد الرأي أن تتردّدا