الطفرة النفطيّة الثالثة: السعوديّة مختلفة هذه المرّة

مدة القراءة 6 د

مرّت على دول الخليج طفرتان لأسعار النفط على مدى نصف قرن، الأولى في السبعينيّات بعد حرب أكتوبر 1973، والثانية في عقد الألفيّة بعد غزو العراق في 2003 حتى عام 2014، والآن ثمّة بوادر لطفرة ثالثة، لكن في فضاء اقتصادي وجيوسياسي مختلف.

قبل شهر واحد لم يكن على وجه الأرض مركز أبحاث واحد يتوقّع أن تلامس أسعار النفط 140 دولاراً للبرميل، بل كانت معظم التوقّعات ترجِّح أن يكون معدّل السعر على مدى العام الحالي بين 70 و80 دولاراً. انقلبت الأسواق فجأة، وانقلبت معها الأجواء العالمية في الموقف من النفط.

كان الرئيس الأميركي جو بايدن يتحدّث عن الذهب الأسود باعتباره من عُدّة العالم القديم المشرف على الانتهاء، وكان قادة العالم المتقدّم يتحدّثون عن “تحوّل الطاقة” كحتميّة ومسألة وقت. بات الجميع الآن يولون للوقت احتراماً، ويقرّون بأنّ التحوّل نحو الطاقات المتجدّدة لا يُغني عن الاستثمار في النفط والغاز.

تأتي الطفرة الثالثة بعد مخاضٍ اقتصادي تاريخي مرّت به دول الخليج منذ انهيار أسعار النفط عام 2014. فصدمة تحوّل ميزانيّاتها إلى العجز قادت إلى إصلاحات اقتصادية وماليّة غير مسبوقة

يطير مبعوث الرئيس الأميركي لشؤون المناخ جون كيري إلى هيوستن هذه المرّة، لا ليحضر مؤتمراً عن التغيّر المناخي، بل ليشارك في المؤتمر السنوي الأكثر شهرة لصناعة النفط والغاز، CERAWeek، الذي افتتح أعماله الإثنين الماضي. كان من المتوقّع للمؤتمر الذي عاد للانعقاد حضوريّاً للمرّة الأولى بعد جائحة كورونا أن يركّز على مستقبل الصناعة النفطية في ظلّ ضغوط التحوّل البيئي والاتجاه العالمي لخفض الانبعاثات الكربونية. لكنّ الغزو الروسي لأوكرانيا خلط الأوراق وعبث بجدول الأعمال.

ليست المرّة الأولى التي يطرأ فيها حدث جيوسياسي يؤثّر على المعروض النفطي. فالسنوات الماضية شهدت أحداثاً كثيرة كان بإمكانها أن تحدث قلقاً مماثلاً، لكنّها لم تقفز بالأسعار كما يجري اليوم، من انقطاع الإمدادات الليبية، إلى انهيار قطاع النفط الفنزويلي، إلى عودة العقوبات على إيران في عهد دونالد ترامب، إلى الهجوم الحوثي على منشآت أرامكو الذي خفض الإنتاج السعودي إلى النصف لبعض الوقت، ثمّ الاعتداء على ناقلات النفط في البحر الأحمر وخليج عُمان. كلّ تلك الأحداث لم تهزّ أسواق النفط كما فعلت الحرب الأوكرانية. الاختلاف لا يتعلّق فقط بحجم الحصّة الروسية في سوق النفط العالمية، بل بالقلق الحالي من محدوديّة المعروض في الأسواق، حتّى قبل بدء الحرب. وهذا ما جعل بضع كلمات من وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن، لوّح فيها بعقوبات أحادية على النفط الروسي، كفيلة بدفع أسعار النفط إلى الاقتراب من أعلى مستوياتها التاريخية.

المهمّ في الأمر: هل هي قفزة عابرة مرتبطة بالتوتّر الجيوسياسي؟ أم هي طفرة ستستمرّ لأشهر أو سنين؟ وماذا تعني قفزة الأسعار لدول الخليج؟

تتباين تحليلات بيوت الخبرة إلى حدّ كبير. تتوقّع وكالة “موديز”، مثلاً، عودة الأسعار إلى التراجع سريعاً بعد الحرب، وأن يكون معدّلها في 2023 قرب 68 دولاراً. لكنّ رؤساء الشركات النفطية العالمية الكبرى يربطون قفزة الأسعار بما هو أعمق. فعلى مدى سنتيْ الجائحة، هبطت الاستثمارات في النفط والغاز بشكل حادّ، وهو ما أدّى إلى انخفاض الطاقات الإنتاجية الاحتياطية إلى مستويات متدنّية جدّاً، وليس أدلّ على ذلك من التآكل السريع لإنتاج النفط التقليدي في الولايات المتحدة، وعجز العديد من دول “أوبك” عن الإنتاج بكامل الكوتا المخصّصة لها. وهذا يعني أنّ السوق ستظلّ في حال القلق إلى أن يعود الإنتاج إلى الارتفاع بشكل مؤثّر.

بالنسبة إلى دول الخليج، يقود الارتفاع الراهن للأسعار إلى تحوّل أساسي في أوضاعها الماليّة، بعد سنوات من العجوزات في ميزانيّاتها العامّة، منذ عام 2014.

 الطفرة الثالثة

ربّما تكون هذه الطفرة النفطية الثالثة على مدى نصف قرن. الطفرة الأولى (1974-1981) أشعل شراراتها الحظر العربي على تصدير النفط إلى الولايات المتحدة وعدد من الدول الأخرى الداعمة لإسرائيل بعد حرب أكتوبر 1973. لكنّها كانت مرتبطة أيضاً بقرار الرئيس الأميركي حينها ريتشارد نيكسون فكّ ارتباط الدولار بالذهب وقفزة معدّلات التضخّم. وطفرة عقد الألفية (2003– 2014) أتت بعد عقدين من انخفاض الاستثمارات في النفط والغاز، وتراجع الإنتاج من خارج أوبك نتيجة تقادم الحقول.

الطفرة الأولى أحدثت طفرة تنموية هائلة في الخليج، من خلال الاستثمار في البنى التحتية ورفع مستوى الخدمات وإرسال البعثات التعليمية إلى الخارج، وكان للبنان نصيب وافر منها. والطفرة الثانية موّلت نهضة عمرانية غيّرت وجه المدن الخليجية الكبرى، وموجة أخرى من الابتعاث التعليمي إلى الخارج. لكنّها ترافقت مع نموّ كبير للإنفاق الحكومي الجاري، وتراخٍ في تطبيق الإصلاحات الماليّة.

تأتي الطفرة الثالثة بعد مخاضٍ اقتصادي تاريخي مرّت به دول الخليج منذ انهيار أسعار النفط عام 2014. فصدمة تحوّل ميزانيّاتها إلى العجز قادت إلى إصلاحات اقتصادية وماليّة غير مسبوقة، ولا سيّما في السعودية والإمارات. فهاتان الدولتان كانتا المبادرتين إلى وقف الدعم لأسعار الوقود وإدخال الضريبة على القيمة المضافة (15% في السعودية و5% في الإمارات)، وإصلاح نظام المشتريات الحكومية للقضاء على الفساد والهدر، ورفع مستوى التنافسية في جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة.

 

ماذا عن السعودية؟

في ما يخصّ السعودية تحديداً، كان التحوّل الأكبر عام 2016 مع إطلاق “رؤية 2030” التي وضعت خلال خمس سنوات أسس أكبر تحوّل اقتصادي منذ اكتشاف النفط. في أساس هذا التحوّل إنفاقٌ بمئات مليارات الدولارات من “صندوق الاستثمارات العامّة” لتأسيس مدن جديدة، وقطاعات وصناعات لم يكن لها وجود، مثل السياحة والترفيه والصناعات العسكرية وصناعة السيارات الكهربائية. يدخل في هذا الإطار مشروع مدينة “نيوم” في شمال غرب المملكة، ومشروع البحر الأحمر، الذي سيكون أكبر وجهة للسياحة المستدامة في جزر البحر الأحمر، ومشروع تطوير منطقة العلا، ومدينة القديّة الترفيهية قرب الرياض، والاستثمارات الهائلة في الصناعات التعدينية، وإنشاء مصنع قرب جدّة لشركة “لوسيد”، ثاني أكبر شركات صناعة السيارات الكهربائية الأميركية.

خطة تمويل هذا التحوّل قائمة بالفعل، وهي لا تنتظر ارتفاع أسعار النفط، وجزء منها يقوم على اقتطاع جزء من الثروة النفطية لتمويل هذا البرنامج الاستثماري، من خلال نقل ملكية 4% من أسهم “أرامكو”، المالكة والمطوّرة لحقول النفط، إلى صندوق الاستثمارات العامة.

إقرأ أيضاً: أوكرانيا تذكّر بأمجاد النفط: واشنطن أوّلاً..

هذا يعني أنّ السعودية تدخل الطفرة النفطية الجديدة بوضع ماليّ منضبط (كانت الميزانية العامّة تتوقّع تحقيق فائض هذا العام حتى من دون القفزة الحالية للأسعار)، وبخطة مسبقة لكيفيّة التصرّف بما قد تأتي به من فوائض. فبدلاً من التوسّع في الإنفاق الجاري، ستشكّل الفوائض النفطية هذه المرّة رافداً للاستثمار في القطاعات الجديدة التي سيقع على عاتقها توفير فرص عمل وتنويع الاقتصاد بعيداً عن النفط.

ومع التحوّل الاقتصادي يأتي تحوّل في الوزن السياسي لدولةٍ تريد أن تتبوّأ مركزاً بين أكبر 15 اقتصاداً في العالم بحلول عام 2030.

مواضيع ذات صلة

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…

استراتيجية متماسكة لضمان الاستقرار النّقديّ (2/2)

مع انتقالنا إلى بناء إطار موحّد لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، سنستعرض الإصلاحات الهيكلية التي تتطلّبها البيئة التنظيمية المجزّأة في لبنان. إنّ توحيد الجهود وتحسين…

الإصلاحات الماليّة الضروريّة للخروج من الخراب (1/2)

مع إقتراب لبنان من وقف إطلاق النار، تبرز الحاجة الملحّة إلى إنشاء إطار متين وفعّال للامتثال لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. تواجه البلاد لحظة محورية،…

لبنان “البريكس” ليس حلاً.. (2/2)

على الرغم من الفوائد المحتملة للشراكة مع بريكس، تواجه هذه المسارات عدداً من التحدّيات التي تستوجب دراسة معمّقة. من التحديات المالية إلى القيود السياسية، يجد…