يُروى أنّ علاقة صداقة قامت بين الرئيسين، الكوبي فيدل كاسترو، والجزائري أحمد بن بِلّا. ليس لمصلحة سياسيّة. إنّما انطلاقاً من روح ثوريّة. فالرجلان كانا مشبَعَيْن بالفكر اليساري الذي ساهم في تلك الفترة في إلهام الشعوب المضطهَدة للتحرّر من ظُلم الديكتاتوريّات والاحتلالات. كاسترو قاد ثورة ضدّ ديكتاتورية باتيستا في كوبا. وبن بِلّا قاد مقاومة ضدّ المستعمِر الفرنسي للجزائر.
الصداقة استمرّت بين كاسترو والرئيس هواري بومدين الذي انقلب على بن بِلّا. فكان الأوّل يقدّم للرئيس الجزائري هدايا من أفخر أنواع السيكار الكوبي. والثاني يبادله بأفخر أنواع التمور الجزائرية. صداقة الزعماء المقاومين انسحبت صداقة بين الشعبين الكوبي والجزائري، دافعها روح التضامن في مقاومة الاحتلال والظلم.
اللبنانيون، بغالبيّتهم، يتعاطفون مع أوكرانيا قيادةً وشعباً، شأنهم شأن غالبيّة سكان الأرض. ويرفضون الغزو الروسي. ويعبّرون عن هذا الموقف على مواقع التواصل الاجتماعي. موقف طبيعي لشعب عانى من الاحتلالات العسكرية
ما لزوم هذا الكلام اليوم؟
لفتني تعامل إعلام حزب الله مع الغزو الروسيّ لأوكرانيا. فهو بدا داعماً ومهلّلاً لهذا الغزو، معتقداً أنّه بذلك يسجّل نقطة ضدّ الأميركيين والأوروبيين، حلفاء كييف، و”يمرّك” على حلفاء أميركا والغرب في لبنان. فقد جاء في مقدّمة النشرة المسائية يوم 24 شباط الفائت على قناة المنار: “تشهد الأراضي الأوكرانية على دفن العنجهيّة الأميركية وما يُسمّى حلفاً أوروبيّاً سقطت كلّ قوّته أمام قوّة القرار الروسيّ”. وفي اليوم التالي سخِرت مقدّمة النشرة من الرئيس الأوكراني إذ جاء فيها: “لقد تُرِكْنا وحيدين بمواجهة روسيا، قال الرئيس الأوكراني الذي يتولّى يوميّاً إذاعة أخبار تقدُّم القوات الروسيّة”. وأضافت: “معلناً من مخبئِه أنّ تلك القوّات دخلت مناطق في العاصمة كييف”.
إعلام يدّعي أنّه مقاوم. يهلّل للغازي. ويسخر من المقاوِم! ينعت الدولة التي تغزو بـ”صاحبة القرار القويّ”. ويستهزئ من وجود الرئيس الأوكراني المقاوِم في مخبأ، ناسياً أو متناسياً أنّ زعيمه لا يزال حتى اليوم يختبئ من استهداف إسرائيلي. وبدل أن يُبدي تعاطفاً مع الأوكرانيين الذين يقاومون ثاني أكبر قوّة عسكرية في العالم دفاعاً عن أرضهم وعن حرّيّتهم وسيادة بلدهم واستقلاله، يستهزئ بهم. وهل هناك احتلال أوضح وأوقح من الغزو الروسي لأوكرانيا الذي حدّد أهدافه فلاديمير بوتين بـ”قبع” السلطة في كييف التي وصفها بـ”النازيّة”، وتجريد أوكرانيا من السلاح؟! وشنّ إعلام الحزب، المرئي والمسموع والمكتوب، حملة على بيان وزارة الخارجية اللبنانية الذي دان الغزو الروسي لأوكرانيا مستنداً إلى القوانين الدولية.
غزو سوريا
قبل غزو أوكرانيا، هلّل الحزب وإعلامه للغزو الروسي لسوريا (عام 2015) بدعوة من نظام الأسد. حينها رأى فيه مساعداً له ولإيران لدحر المعارضة السورية. فالحزب كان قد سبق “الدب الروسي” إلى سوريا عندما أرسل عناصره لدعم بشار الأسد. فهاجموا المدن والقرى السورية المنتفضة ضدّ ديكتاتورية النظام وهجّروا أهلها. وللتذكير، حين انخرط حزب الله في الحرب السورية (2012) لم يكُن في سوريا لا داعش ولا داعشيون. لكنّ المفاجئ اليوم أنّ إعلام الحزب يهلّل للغزو الروسي لأوكرانيا في حين أنّ روسيا قوّضت حريّة الحركة العسكريّة للحزب وللحرس الثوري الإيراني منذ بدء تدخّلها في سوريا، وتتآمر مع إسرائيل ضدّه، فتكشفه أمنيّاً لتستهدف الطائرات الحربية الإسرائيلية مواقعه العسكرية ومخازنه!
قبل غزو أوكرانيا، هلّل الحزب وإعلامه للغزو الروسي لسوريا (عام 2015) بدعوة من نظام الأسد. حينها رأى فيه مساعداً له ولإيران لدحر المعارضة السورية
العالم بغالبيّته العظمى تفاعل ضدّ الغزو الروسي لأوكرانيا. واتّخذ موقفاً، قبل عقدين من الزمن، ضدّ اجتياح الولايات المتحدة الأميركية للعراق. هذا وكان نظام العراق ديكتاتورياً عسكرياً يحكم البلاد بالحديد والنار، في حين أنّ أوكرانيا بلد ديمقراطيّ، والسلطة في كييف وصلت من خلال الانتخابات، ورئيس البلاد كان ممثّلاً كوميدياً يُضحك الناس، ولم يكن جاسوساً يعذّبهم ولا عسكرياً يقتلهم. انتفض العالم ضدّ غزو أوكرانيا، ليس فقط دفاعاً عن القوانين الدولية التي تمنع على أيّ دولة غزو دولة أخرى، ولا خوفاً من حرب عالمية ثالثة، إنّما دفاعاً عن سلطة مُنتخَبة ديمقراطياً، وتعاطفاً مع شعب آمن ومُسالم.
اللبنانيون، بغالبيّتهم، يتعاطفون مع أوكرانيا قيادةً وشعباً، شأنهم شأن غالبيّة سكان الأرض. ويرفضون الغزو الروسي. ويعبّرون عن هذا الموقف على مواقع التواصل الاجتماعي. موقف طبيعي لشعب عانى من الاحتلالات العسكرية. وعرف الحروب وقاسى ويلاتها. واُضطرّ إلى ترك بيته وأرضه وبستانه والهرب لاجئاً أو نازحاً في بلده، أو مهاجراً في الخارج.
موقف اللبنانيين، ولا أقصد هنا المحلّلين والمتابعين، بل المواطنين العاديّين، موقفهم هذا “سلاميّاً” لكن ليس استسلاميّاً. فيما يأسفون لمشاهد الغزو والقتل والدمار والتهجير، يُبدون حماسة للمقاومة الأوكرانية، ويعبّرون عن رغبتهم في أن يصمد الأوكرانيون في وجه آلة القتل الروسية، وأن ينتصروا، كما واجهوا هم السلاح الفلسطيني، وقاوموا الجيش الإسرائيلي وطردوه، وأخرجوا الجيش السوري.
إقرأ أيضاً: سيناريو إسقاط بوتين خلال عشر سنوات
التضامن الذي تُبديه غالبيّة الشعب اللبناني يشبه التضامن الذي نشأ بين الشعبين الكوبي والجزائري في خمسينيّات القرن الماضي وتحوّل إلى صداقة. من خلاله، يُظهر الشعب اللبناني أنّه هو المقاوم الحقيقيّ. وهو مَن يملك فعليّاً روح المقاومة ضدّ الظلم والاحتلال. بينما مَن يدّعي المقاومة في لبنان يهلّل للمحتلّ في أوكرانيا!
* أستاذ في الجامعة اللبنانية