سيرة بوتين.. طفل الصدفة ستالين بلا شاربين

مدة القراءة 8 د

قيصرٌ بلا تتويج، ستالين بلا شاربين، غامِضٌ يُحيِّر من يتابعه.

هل هو مناوِرٌ أم مُغامِرٌ؟ جيمس بوند المُتربّع على عرش الكرملين السّاعي إلى إحياء الإمبراطوريّة القيصريّة – السّوفياتيّة فلاديمير بوتين.

رئيسٌ صعب المزاج، يكره أن يسمع أو يُشاهِدَ “الثّورات المُلوّنة”، البرتقاليّة منها أو الورديّة أو الزّهريّة، في الدّول التي قامت من تحت ركام الاتحاد السّوفياتي.

لم يكُن جدّ الرّئيس الرّوسيّ وطبّاخُ الزّعيميْن السّوفياتيّيْن فلاديمير لينين وجوزف ستالين، يعلم في 7 تشرين الأوّل من سنة 1952 أنّه رُزِقَ بحفيدٍ سيكون في المُستقبَل نظيراً لمن كانا يأكُلانِ ما يطبخ.

في بيتٍ شيوعيّ تقليديّ، وُلِدَ فلاديمير بوتين لأبٍ، يعمل في إصلاح عربات القطار ثمّ مُجنّداً مُتنقّلاً بين طواقم الغوّاصات في سلاح البحريّة التّابع للجيش الأحمر وفِرَق مُقاومة الجيش النّازيّ في الحرب العالميّة الثّانية ، وأمٍّ عاملة في أحد المصانع السّوفياتيّة في لينينغراد (سانت بطرسبرغ حاليّاً).

أثبتَ بوتين عبر السّنين أنّه لاعبٌ ماهر. يعلم متى يُناوِر، متى يُغامر، وكيفَ يُحرز الأهداف في المرمى الأميركيّ

كانت قصّة ولادته شبيهةً بقصص الخيال. أثناء قِتال والده ضدّ قوّات هتلِر، تعرّضت مجموعته للمُطاردة من قِبَل النّازيين. اختبأ في قاع مُستنقعٍ لينجو بأعجوبةٍ. وبعدَ عودته إلى منزله، وجَد قربه عربةً مليئةً بالجُثث التي ستُنقَل لدفنِها في مقبرة جماعيّة، وذلك بعد أن قصفَ الألمان المنطقة.

من بين تلك الجثث المحمّلة على متن الشّاحنة، لاحظ بوتين الأب حذاءً كان أهداه لزوجته. وقفَ مُحتاراً هل يتّجه إلى المنزل ليطمئنّ على زوجته؟ أم يتفحّصَ جثّة السّيدة صاحبة الحذاء؟ فاختار الثّاني، واكتشَفَ أنّها زوجته.

قرر بوتين الأب أن يسحبَ “جثّة” زوجته من الشّاحنة، ويدفنها في مقبرة خاصة. وهُنا كانت المُفاجأة، إذ كانت زوجته لا تزال تتنفّس ببطءٍ. سارَعَ بها إلى أقربِ مُستشفى حيثُ أُسعِفَت وعادَت إلى منزلها مرّةً أخرى.

بعد سنتيْن من تلكَ الواقعة، وضعت السّيّدة العائدة إلى الحياة مولودها “فلاديمير”، الذي وُلِدَ صُدفةً ليتربّع على عرشِ روسيا الاتّحاديّة.

خرجَ من ذلك البيت المُتواضع إمبراطور برتبة رئيسٍ لروسيا الاتحاديّة. كسرَ الأحاديّة القطبيّة للولايات المُتّحدة، وأعادها في سنوات قليلة إلى ما يشبه مرحلة الحرب الباردة التي ظنّ الأميركيّون أنّها انتهت إلى غير رجعةٍ، لتجِدَ نفسها في مُقابل نسخةٍ مُحدّثةٍ من فلاديمير لينين وجوزف ستالين.

أثبتَ بوتين عبر السّنين أنّه لاعبٌ ماهر. يعلم متى يُناوِر، متى يُغامر، وكيفَ يُحرز الأهداف في المرمى الأميركيّ.

 

سيرته الشخصية

تخرّج من كليّة الحقوق في لينينغراد سنة 1975. ترتسم علامات السّؤال خلفَ كلّ مرحلةٍ في حياته. رجلُ المهمّات الغامضة الذي أمضى سنوات من حياته عميلاً مُتنكّراً بصفة مترجمٍ لجهاز الاستخبارات السّوفياتيّة (KGB) في مدينة درسدن في ألمانيا الشّرقيّة، في مهمّة امتدّت لـ4 سنوات حتّى سقوط جدار برلين، لم تُعرف طبيعتها حتّى الآن.

بعد تغيير اسم الجهاز إلى “الأمن الفيدراليّ” سنة 1998، تربّع بوتين لسنة واحدة على أوّلِ عرشٍ من العروش الثلاثة التي تبوّأها في مسيرته. في شهرِ آب من سنة 1999، جلَسَ القيصر فلاديمير على عرشه الثّاني، بعدما عيّنه الرّئيس بوريس يلتسين رئيساً للوزراء.

كانت الحكومة التي شكّلها هشّةً وضعيفة. لم يتقبّلها الشّعب الرّوسيّ ولا الصّحافة التي اتّخذت منها موقفاً مُعادياً. وجدَ بوتين ضالّته في الشّيشان ليرفَع من رصيده الشّعبيّ ويستميل الإعلام، الذي مجّده بطريقةٍ غير مسبوقة منذ عهد جوزف ستالين. إذ لم يكُن الرّوس قد نسوا بعد مشاهد الهزيمة المُذلّة في أفغانستان.

صبّ بوتين حِمَم نار الآلة العسكريّة الرّوسيّة على الشّيشان التي كان يرأسها الانفصاليّ أصلان مسخادوف الذي نجا من عدّة محاولات اغتيالٍ دبّرها له بوتين بعد تولّيه رئاسة الأمن الفيدراليّ. وفي كانون الأوّل من السّنة نفسها، قرّر الرّئيس الرّوسي يلتسين التّنحّي ونقل صلاحيّاته إلى بوتين ليصير الرّئيس المُؤقّت.

 

إحراق الشيشان

خاضَ فلاديمير الانتخابات على أنقاض العاصمة الشّيشانيّة غروزني التي أحرقها عن بكرة أبيها، من دون خطوطٍ حمراء، لتتوِّجه الانتخابات الرّئاسية سنة 2000 رئيساً مُنتخباً للمرّة الأولى، ويُعاد انتخابه سنة 2004. بسبب العائق الدّستوريّ الذي يمنع تولّي الرّئيس أكثر من ولايتيْن مُتتابعتيْن، دعمَ بوتين ديمتري ميدفيديف رئيساً لولاية واحدة من 2008 حتّى 2012، فيما كان هو الحاكم الفعليّ فيها على الرغم من تولّيه منصبَ رئاسة الوزراء.

عادَ سنة 2012 إلى الكرملين، لكن في هذه المرّة لن يقَع القيصر في فخّ الدستور مُجدّداً. فبينما كان يُعلن أنّه “لا يتشبّث بالسّلطة ولا يسعى إلى المناصب”، كانت يمينه تكتب تعديلاً دستوريّاً يتيح له التّرشّح عند انتهاء كلّ ولاية.

عبر السّنين، خطّ بوتين نمطاً سياسيّاً جديداً يُمكن تسميته “البوتينيّة السّياسيّة”. يجمع النّمط البوتينيّ الشّدّة والحزمَ مع النّزعة القوميّة السّلافيّة وحرّيّة التعبير ذات السّقف المُنخفض، أي ليسَت تلك التي تُؤدّي إلى التغيير. هذا الخليط دغدغ مشاعرَ الرّوس التّوّاقين للعودة إلى أمجاد الإمبراطوريّة.

أضافَ بوتين إلى نمطِه إتقانه لمظاهر “التّفشيخ” والاستعراض، إذ يخرجُ مُستعرضاً عضلاته وهو عاري الصّدر في رحلة صيدٍ في صقيع سيبيريا. ويظهر مُحاطاً بجمعٍ من الحسناوات في صورةٍ أُخرى، وقائداً لموكب درّاجات harley Davidson، وكأنّه يقول للشّعب الرّوسي: ” لا تُقارنوني بأحد. أنا مُختلف عن ذلك العجوز الدائم الثّمالة يلتسين”.

 

قمع المعارضين في الداخل

في وسط هذا الاستعراض، كان بوتين يقمع مُعارضيه واحداً تلوَ الآخر. لينال دعمَ الشّعب في ذلك، قام بسجن بعض رجال الأعمال المُقرّبين منه بتهمِ الفساد.

لكنّ للرّجلِ القويّ ملفّات تُؤرقه وتُسبّب له صداعاً دائماً.

رئيسٌ صعب المزاج، يكره أن يسمع أو يُشاهِدَ “الثّورات المُلوّنة”، البرتقاليّة منها أو الورديّة أو الزّهريّة، في الدّول التي قامت من تحت ركام الاتحاد السّوفياتي

لم يكُن الشّيشان الذين أخمدَ بوتين تمرّدهم وعيّن آل قاديروف الموالين له في سدّة الحكم، مصدر صُداعه الوحيد. انطلقت الهتافات من ساحة الاستقلال في العاصمة الأوكرانيّة، الحديقة الخلفية للحصنِ الروسيّ، بُعيدَ الانتخابات الرئاسية الأوكرانية عام 2010 التي فاز فيها فيكتور يانوكوفيتش الموالي لروسيا. قيلَ يومها إنّها مُزوّرة، إلا أنّ بوتين رفض بحزمٍ دعوات إلغاء نتائج الانتخابات وحذّر من تدخّل الغرب الذي اتّهمه بالتآمُر على روسيا وأوكرانيا.

اعتقدَ سيّد الكرملين أنّه نجح في إبعاد الغرب عن حديقته الخلفيّة بانتهاء “الثورة البرتقاليّة” بعودة رجله يانوكوفيتش إلى الحُكم، والزّج بزعيمة المعارضة تيموشنكو في السّجن، لكنّ ما حصل بعدَ ذلك في 2013 في كييف ومقاطعات أوكرانيّة أخرى من احتجاجات شعبية بلغت حدّ “الثورة” مُجدّداً أفقدَه حليفاً استراتيجيّاً، وتولّى خصمه ألكسندر تورتشينوف مهام الرّئاسة لمرحلة انتقالية.

لم يتأخّر بوتين في الرّد على “الانقلاب الغربيّ” في أوكرانيا. لجأ إلى الحلّ المُفضّل لديه، الحلّ العسكريّ. احتلّ شبهَ جزيرة القرم تحت شعار “حماية المواطنين من أصل روسيّ”، وهذا أيضاً يُدغدغُ مشاعر القوميين الرّوس في بلاده.

 

من القرم إلى أوكرانيا

صارَ الغرب تحت أمرٍ واقعٍ في القرم. لم تقُم أيّ دولة بالدّفاع عن شبه الجزيرة الاستراتيجيّة، التي تُعتبر مقرّاً لأسطول البحر الأسود الرّوسيّ.

على الرّغم من سيطرته على القرم، لم يوقف الغرب اللعب في حديقة بوتين الخلفيّة. عادَت مُحاولات إلحاق أوكرانيا بحلف النّاتو، خصوصاً بعد انتخاب فولوديمير زيلينسكي سنة 2019. لكنّ الرّجل الذي شاهدَ تفكّك الاتحاد السّوفياتي، وعايشَ عالم ما بعد جدار برلين لن يقف مكتوفَ الأيدي.

حشدَ بوتين أكثر من 100 ألف جنديّ وآلاف الدّبّابات والمُدرّعات ومئات الطّائرات الحربيّة قُربَ الحدود مع أوكرانيا. ظنّ كثيرون أنّه لن يدخلَ أوكرانيا، على اعتبار أنّ هذا الأمر ضرب من الجنون. أثبتَ بوتين أنّه على قدرٍ كافٍ من الجنون. تحدّى الغرب من حدود الاتحاد الأوروبيّ وصولاً إلى أميركا، وسطَ تخبّطٍ غربيٍّ اعتادَه بوتين منذ اجتياحه جورجيا سنة 2008 بحجّة الدّفاع عن انفصال أوسيتيا الجنوبيّة وأبخازيا.

إقرأ أيضاً: أوكرانيا: بوتين يدافع.. أو يهاجم؟

ثابتةٌ واحدة منذ بدء مُسلسل الغزوات البوتينيّة بدءاً من الشّيشان سنة 1999، ثمّ جورجيا 2008، ثمّ القرم 2014، ثمّ دخول سوريا في 2015، وصولاً إلى التدخّل العسكري في أوكرانيا اليوم، هي: “الغربُ لا يعرِف فلاديمير بوتين”.

يقول الرّئيس الأوكراني زيلينسكي مُستغرباً: “لا أعرف ماذا يريد فلاديمير بوتين”. لا داعي لأن يستغربَ زيلينكسي، فالغرب بأجمعه لا يعرف ماذا يريد قيصر روسيا الاتحاديّة.

مواضيع ذات صلة

فتح الله غولن: داعية… هزّ عرش إردوغان

ثمّة شخصيات إسلامية كثيرة في التاريخ توافَق الناس على تقديرها واحترامها، مع ظهور أصوات قليلة معترضة على نهجها أو سلوكها أو آرائها، لكنّها لم تتمكّن…

مصرع السنوار في مشهد لا يحبّه نتنياهو

مات يحيى السنوار، رئيس حركة حماس منذ اغتيال سلفه إسماعيل هنية في 31 تموز الماضي، وهو يقاتل الجيش الإسرائيلي، في إحدى أسخن جبهات القتال في…

الحزب بعد “السّيّد”: الرأي الآخر… ومشروع الدّولة

هنا محاولة لرسم بورتريه للأمين العامّ للحزب، بقلم كاتب عراقي، التقاه أكثر من مرّة، ويحاول في هذا النصّ أن يرسم عنه صورةً تبرز بعضاً من…

الياس خوري رحل إلى بيروته وتركنا لأشباحها

عن 76 عاماً، قضاها بين الورق والحبر والكتب والنضال من أجل تحرير فلسطين والإنسان العربي، غادرنا الروائي والقاصّ والناقد والأكاديمي الياس خوري، تاركاً فراغاً يصعب…