قُضي على لبنان بطريقة ممنهجة عبر تدمير كلّ مقوّمات وجوده وصولاً إلى انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهوريّة… ولكن من أجل ماذا؟ قتلوا رفيق الحريري من أجل استكمال قتل لبنان وكي لا تقوم له قيامة يوماً. هل فعل “حزب الله” والذين يقفون خلفه كلّ ذلك من أجل أن يسدّ اللبنانيّون جوعهم عن طريق الصواريخ والطائرات المسيَّرة التي يتباهى الحزب بامتلاكها؟
أسئلة كثيرة أخرى مطروحة لا جواب عنها سوى أنّ المطلوب أن يكون لبنان جرماً يدور في الفلك الإيراني ولا شيء آخر. ماذا ينفع لبنان أن يكون معظم أبناء شعبه لا يجدون ما يسدّون به رمقهم، فيما يتباهى “حزب الله” بامتلاك طائرات مسيَّرة وصواريخ “دقيقة” موجّهة إلى إسرائيل. هل يستطيع اللبنانيون، الذين فقدوا ما يملكونه في المصارف اللبنانية وفقدوا الكهرباء والمدرسة والجامعة والمستشفى… ورغيف الخبز وقطاع الخدمات، سدّ جوعهم واستعادة أموالهم المسروقة بواسطة الصواريخ والطائرات المسيَّرة؟ الجواب لا وألف لا. كلّ ما في الأمر أنّ اللبنانيين فقدوا لبنان ولن يجدوا بديلاً منه.
في ظلّ وجود سلاح “حزب الله”، يستحيل تصالح اللبنانيين مع الواقع ومع مصلحة بلدهم ومستقبله الذي هو مستقبل أبنائهم. تعني المصالحة مع الواقع أموراً كثيرة
آن أوان أخذ اللبنانيين علماً بأنّ بلدهم صار مهزلة لا أكثر، بل لم يعد موجوداً. ليس معروفاً هل يمتلكون شجاعة الإقدام على هذه الخطوة مع ما يعنيه ذلك من اعتراف بأنّ مشكلتهم المستمرّة تكمن في الهرب من الواقع بدءاً بسؤال منطقي وبسيط في آن. السؤال المنطقي والبسيط، الذي يحتاج الردّ عليه أوّل ما يحتاج إلى شجاعة، هو الآتي: لماذا لم تحتلّ إسرائيل أراضي لبنانيّة في حرب العام 1967؟ الجواب أكثر بساطة. لم يشارك لبنان، وقتذاك، في الحرب في حين وجد الأردن نفسه مضطرّاً إلى ذلك. خسر الأردن الضفّة الغربيّة والقدس الشرقيّة كون الملك حسين، رحمه الله، كان مضطرّاً إلى دخول الحرب في ضوء التهديد الذي كان يتعرّض له عرشه.
أيام شارل حلو
كان لبنان دولة مستقلّة بالفعل. استطاع رئيس الجمهوريّة شارل حلو تفادي كلّ الضغوط التي مورست عليه في 1967 من أجل دخول الحرب. لكنّ شارل حلو نفسه، لم يستطع في 1969 تحمّل كلّ الضغوط واضطرّ إلى توقيع اتفاق القاهرة. الأكيد أنّ رشيد كرامي، الذي كان رئيساً للوزراء مارس، وقتذاك، مع آخرين من الزعماء المسلمين كلّ أنواع الضغوط على رئيس الجمهوريّة. لكنّ الأكيد أيضاً أنّ الزعماء الموارنة، باستثناء العميد ريمون إدّه، دفعوا في اتجاه توقيع الاتفاق المشؤوم من منطلق واحد هو الوصول إلى موقع رئيس الجمهوريّة.
إذا كان من درس يمكن استخلاصه من تجربة يزيد عمرها على نصف قرن، فإنّ هذا الدرس يتمثّل في أنّ لبنان لا يستطيع أن يأخذ على عاتقه تحرير فلسطين. ليس مطلوباً من لبنان توقيع معاهدة سلام مع إسرائيل ولا إقامة علاقات طبيعية معها. هذا ليس مطروحاً في وقت تعيش إسرائيل في عالم آخر لا علاقة له بلبنان، خصوصاً بعدما صارت لديها علاقات مع عدد لا بأس به من الدول العربيّة، بدءاً بمصر وانتهاءً بالبحرين.
في ما يتعلّق بمستقبل العلاقة مع إسرائيل، يفترض في أكثريّة اللبنانيين أن تقرّر طبيعة العلاقة المطلوبة بعيداً عن “حزب الله” وسلاحه وتجارته بمستقبل اللبنانيين وأبنائهم والمزايدة على الفلسطينيين في ما يتعلّق بقضيّتهم.
في ظلّ وجود سلاح “حزب الله”، يستحيل تصالح اللبنانيين مع الواقع ومع مصلحة بلدهم ومستقبله الذي هو مستقبل أبنائهم. تعني المصالحة مع الواقع أموراً كثيرة. من بين هذه الأمور أنّ لبنان ليس “ساحة” تستخدمها إيران لتصفية حساباتها مع أهل الخليج. تعني أيضاً أنّه توجد في لبنان مرجعيّة سياسيّة غير الثنائي ميشال عون – جبران باسيل الذي لا همّ له سوى استرضاء “حزب الله”، لعلّ وعسى يقبل بفرض جبران باسيل رئيساً للجمهوريّة، على غرار ما فعل مع ميشال عون في العام 2016. يواجه هذا الثنائي مهمّة مستحيلة، نظراً إلى أنّ عليه استرضاء “حزب الله” و”الجمهوريّة الإسلاميّة” في وقت يسعى إلى الحصول على رضا أميركا وإسرائيل كي ترفع العقوبات الأميركية عن صهر رئيس الجمهوريّة.
التحكيم الدولي بدل الخطوط
أخيراً وليس آخِراً، تعني مصالحة اللبنانيين مع أنفسهم ومع الواقع الابتعاد عن متاهات الخط الرقم 23 أو الخطّ 29 في ما يتعلّق بترسيم الحدود البحريّة مع إسرائيل. يستطيع لبنان الذهاب إلى تحكيم دولي بغية التوصّل إلى ترسيم الحدود البحريّة، وذلك كي يحصل على حقوقه في ما يخصّ الثروات الغازيّة والنفطيّة الموجودة في البحر. لماذا إضاعة الوقت والتلهّي بالمزايدات. هل انتظرت مصر من أجل توقيع معاهدة سلام مع إسرائيل واستعادة ثرواتها، من نفط وغاز، في سيناء استعادة طابا؟ لم تنتظر ذلك. وقّعت الدولة العربيّة الكبرى، التي من دونها لا حرب مع إسرائيل، معاهدة السلام، قبل 43 عاماً، نعم 43 عاماً. دخلت بعد ذلك في تحكيم دولي واستعادت طابا…
إقرأ أيضاً: شينكر لـ”أساس”: صواريخ الحزب الدّقيقة… ستُفجّر الحرب
في النهاية، ماذا يريد لبنان واللبنانيون الذين يرفضون الاعتراف بأنّ بلدهم فَقَد كلّ مقوّمات وجوده وأن لا أمل لهم بأيّ مستقبل أفضل ما دام سلاح “حزب الله” يتحكّم بهم وبرقابهم، بل يتحكّم بنتائج الانتخابات النيابيّة المتوقّعة؟ يُفترض بهم إدراك أن لا وجود لمرجعيّة سياسيّة في بلدهم، وأنّ لبنان ليس صواريخ ومسيَّرات بمقدار ما أنّه مدرسة وجامعة ومصرف ومستشفى وفندق وملهى وإعلام وفنّ وأدب وكلّ ما له علاقة بثقافة الحياة.
ليست الصواريخ والمسيَّرات سوى وسيلة تُستخدم لوضع اليد على لبنان واللبنانيين. هذه كانت حال حرب صيف العام 2006 التي افتعلها “حزب الله” مع إسرائيل. لم تكن تلك الحرب سوى حرب على لبنان من أجل الانتصار عليه وإخضاع اللبنانيين تأكيداً لِما يؤمن به الحزب، ومن خلفه إيران، بأنّ الانتصار على لبنان بديل من الانتصار على إسرائيل…