اجتياح أوكرانيا: تهميش الاتحاد الأوروبي وربما أكثر..

مدة القراءة 7 د

استطاع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تضليل حلف الأطلسي، وعلى رأسه الولايات المتحدة، ليس في توقيت الحرب على أوكرانيا، ولا في الوسائل المستخدمة في اختراق أراضيها، ولا في سيناريوهات الاجتياح ومحاوره، بل في إرادته خوض المغامرة من دون أيّ خشية من الردّ الغربي المتوقّع اقتصادياً، ما دامت النيّة لردع روسيا عسكرياً غير موجودة.

كلّ الكلام السابق على مدى التدخّل الروسي في أوكرانيا، وكيفيّة مواجهته، بات من الماضي المُهمل. فالهجوم الروسي لا يهدف إلى حماية الجمهوريّتيْن الانفصاليّتين اللتين اعترفت بهما موسكو قبل أيام، بل إلى نزع سلاح أوكرانيا، وتغيير النظام فيها بالقوّة، كما انقلبت على موسكو عام 2014 بالتظاهرات الحاشدة في ميدان العاصمة. والسؤال الآن ليس عن إمكانيّة فوز بوتين، بل عن مصير الدول الشيوعية السابقة، سواء تلك التي انضمّت إلى الحلف الأطلسي منذ انهيار الاتحاد السوفياتي مطلع تسعينيات القرن العشرين، أو تلك التي ما تزال تفكّر في الانضمام إليه، وعن آثار الاجتياح في مجمل القارة الأوروبية وصولاً إلى الشرق الأوسط، وفي التوازن العالمي، ومآل مكانة الولايات المتحدة في النظام الدولي، بل المستقبل السياسي لزعماء كبار مثل الرئيس الأميركي جو بايدن والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.

إذا حقّقت روسيا أهدافها السياسية في أوكرانيا بالوسائل العسكرية، فلن تكون أوروبا كما كانت قبل الحرب

العالم بعد أوكرانيا سيكون مختلفاً عمّا قبلها. ولا يمكن مقارنة اجتياح أوكرانيا باجتياح جورجيا جزئيّاً لضمان انفصال أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية عام 2008، ولا بضمّ شبه جزيرة القرم واقتطاعها من أوكرانيا عام 2014. بل هو أشبه بإخضاع جمهورية الشيشان عام 2000، وهو أوّل إنجاز لبوتين في العام نفسه الذي تسلّم فيه السلطة من الرئيس السابق بوريس يلتسين الموسوم بالضعف والتخاذل أمام التغوّل الأميركي. والسؤال الآن هو عن آثار هذا الاجتياح كما توقّعها بعض الباحثين الاستراتيجيّين الغربيين قبل انطلاقه.

 

آثار كارثيّة

تقول ليانا فيكس (Liana Fix) ومايكل كيماج (Michael Kimmage)، في مقالهما المنشور في مجلة “فورين أفيرز” (Foreign Affairs)، تحت عنوان: ماذا لو فازت روسيا (What if Russia Wins?): عندما انضمّت روسيا إلى الحرب الأهلية في سوريا، في صيف 2015، أُصيبت الولايات المتحدة وشركاؤها بالصدمة. وبسبب الإحباط، ادّعى الرئيس باراك أوباما أنّ سوريا ستصبح “مستنقعاً” لروسيا وللرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أي ستكون سوريا هي فيتنام الروسية أو أفغانستان بوتين. وهو خطأ فادح سيرتدّ بنظر أوباما في النهاية على المصالح الروسيّة.

لم ينتهِ الأمر بسوريا لتصبح مستنقعاً لبوتين. بل غيّرت روسيا مسار الحرب، وأنقذت بشار الأسد من هزيمة وشيكة، ثمّ ترجمت قوّتها العسكرية إلى نفوذ دبلوماسي في هذا البلد. أمّا بالنسبة إلى روسيا في أوكرانيا، فسيكون للنصر في أوكرانيا أشكال مختلفة. وكما هو الحال في سوريا، لا يمكن أن يؤدّي النصر إلى تسوية مستدامة. يمكن أن ينطوي النصر العسكري على تنصيب حكومة خاضعة في كييف أو تقسيم البلاد. وبدلاً من ذلك، فإنّ هزيمة الجيش الأوكراني والتفاوض على استسلام أوكرانيا يمكن أن يحوّل أوكرانيا فعليّاً إلى دولة فاشلة.

وإذا حقّقت روسيا أهدافها السياسية في أوكرانيا بالوسائل العسكرية، فلن تكون أوروبا كما كانت قبل الحرب. لن يقتصر الأمر على مآل التفوّق الأميركي في أوروبا، بل إنّ أيّ شعور سابق بأنّ الاتحاد الأوروبي أو الناتو يمكن أن يضمنا السلام في القارّة سيكون كقطعة أثرية منتمية إلى عصر ضائع. بدلاً من ذلك، قد يكون واجباً حصر الأمن في أوروبا بالدفاع عن الأعضاء الأساسيين في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. كلّ دولة خارج تلك المؤسّسات ستقف بمفردها، باستثناء فنلندا والسويد. قد لا يكون هذا بالضرورة قراراً واعياً لإنهاء سياسة توسيع حلف الأطلسي، لكنّه سيكون سياسة الأمر الواقع.

ستكون الولايات المتحدة وأوروبا أيضاً في حالة حرب اقتصادية دائمة مع روسيا. وسيسعى الغرب إلى فرض عقوبات كبيرة، من المرجّح أن تتجنّبها روسيا مع اللجوء إلى الهجمات الإلكترونية واستعمال موارد الطاقة في ابتزاز أوروبا. وقد تقف الصين إلى جانب روسيا في هذه الخطوة اقتصادياً. ومن خلال أساليب كريهة، ستنتهز روسيا أيّ فرصة للتأثير في الرأي العام والانتخابات في الدول الأوروبية. وسيكون لروسيا حضور فوضوي، حقيقي أحياناً، ومتوهّم أحياناً أخرى، في كلّ حالة من حالات عدم الاستقرار السياسي الأوروبي. وسيكون لقوات الحلف الأطلسي حضور دائم في الدول الأوروبية الشرقية الأعضاء في الحلف. ولن تكون مقارنات الحرب الباردة مفيدة في عالم تسوده أوكرانيا الروسيّة. لقد كانت حدود الحرب الباردة في أوروبا واضحة، واستقرّت بطريقة مقبولة للطرفين في معاهدة هلسنكي النهائية لعام 1975. وعلى النقيض من ذلك، فإنّ السيادة الروسية على أوكرانيا، ستدشّن مرحلة من زعزعة الاستقرار وانعدام الأمن من أستونيا إلى بولندا، ورومانيا، فتركيا. ووسط هذه الديناميكية المتغيّرة، يجب تصوّر النظام في أوروبا من منظور عسكري في المقام الأول، وسيكون في مصلحة الكرملين، نظراً إلى أنّه سيكون لروسيا يد أقوى في المجال العسكري منها في المجال الاقتصادي، واستطراداً ستُهمَّش المؤسسات غير العسكرية مثل الاتحاد الأوروبي.

العالم بعد أوكرانيا سيكون مختلفاً عمّا قبلها. ولا يمكن مقارنة اجتياح أوكرانيا باجتياح جورجيا

أوكرانيا هي البداية فقط

يقول مايكل داي (Michael Day) أحد كبار المعلّقين في صحف بريطانية عدّة، إنّ الوقت حان لكي يدرك الغرب أنّه باجتياح روسيا لأوكرانيا فإنّ خطّاً ما قد تمّ تجاوزه، وأنّنا سنحتاج إلى دفع أيّ ثمن مطلوب لضمان حرية بقيّة القارّة. وعليه، فإنّ بوتين لن يكتفي باجتياح أوكرانيا، وسيكون على الحلف الأطلسي الدفاع عن حدوده الشرقية في أوروبا، في بولندا وغيرها. فبوتين لم يُخفِ نيّته إعادة جمع الاتحاد السوفياتي مجدّداً، وذلك في أثناء الخمسة عشر عاماً الفائتة، وأنّ الدول السوفياتية السابقة في أوروبا الشرقية يجب أن تعود إليه.

وقال كليفورد ماي (Clifford D. May)، رئيس مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات (Foundation for Defense of Democracies)، تحت عنوان: إذا فاز بوتين فلن تخسر أوكرانيا وحدها (If Putin wins, it’s not only Ukraine that loses)، إنّ هناك سوء فهم لبوتين وكيف يفكّر. فالشائع أنّ بوتين يتحرّك دفاعاً عن النفس، وأنّه يخشى الحلف الأطلسي، علماً أنّ الحلف الأطلسي لم يكن يوماً عدائيّاً بحسب تعبيره، وأنّ الولايات المتحدة، التي تشكّل القوة الرئيسية في الحلف، حاولت تجنّب الصراع المسلّح بكلّ الأثمان الممكنة، كما فعلت أخيراً في أفغانستان.

ويعتقد ماي الذي درس في جامعة لينينغراد الحكومية طالباً زائراً، في الوقت الذي كان فيه بوتين يدرس في الجامعة نفسها، من دون أن تكون له علاقة شخصية معه، أنّ الرئيس الروسي يعتبر نفسه الإمبراطور الحديث لروسيا، وأنّ مهمّته استعادة الإمبراطورية القديمة لروسيا، وتجميع أجزائها مرّة أخرى، عقب سقوطها الكبير في الحرب الباردة. وفي عام 2005، وصف بوتين سقوط الاتحاد السوفياتي بأنّه “الكارثة الجيوسياسية الكبرى في خلال قرن”.

الاسم الكامل لأيّ إمبراطور روسيّ هو: “قيصر كلّ الروس”. وهذا لا ينحصر فقط بروسيا الحاليّة، بل يضمّ أيضاً بيلاروسيا (روسيا البيضاء)، وأوكرانيا (التي تسمّى أحياناً بـ”روسيا الصغيرة”). ويصرّ بوتين على أنّ الروس والأوكرانيّين شعب واحد وكيان واحد.

إقرأ أيضاً: أزمة أوكرانيا تكشف عورة أميركا

في الواقع، ومع أنّ للروس والأوكرانيّين جذوراً تاريخية مشتركة، إلا أنّ ستالين الذي غضب على أوكرانيا بسبب رفضها المزارع الجماعية السوفياتية، افتعل مجاعة فيها أدّت إلى موت الملايين. والعبارة الأوكرانية “Holodomor” تشير إلى المجاعة والإبادة. وفي عام 1994، عقب انهيار الاتحاد السوفياتي واستقلال أوكرانيا، وقّعت الولايات المتحدة وبريطانيا وروسيا مذكّرة بودابست مع أوكرانيا، تقضي بتسليم كييف ترسانتها النووية مقابل التعهّد بحمايتها من استعمال القوة أو التهديد بها للمسّ بسلامة أراضيها أو استقلالها. لكنّ بوتين، أمام تردّد وتخاذل الولايات المتحدة وبريطانيا، انتهك هذه المذكّرة، وهو ما سيؤدّي إلى انحسار حكم القانون في العالم وسريان حكم الغابة.  

مواضيع ذات صلة

مشاورات “الأعياد”: لا 65 صوتاً لأيّ مرشّح بعد!

تَجزم مصادر نيابية لموقع “أساس” بأنّ المشاورات الرئاسية في شأن جلسة التاسع من كانون الثاني قد تخفّ وتيرتها خلال فترة الأعياد، لكنّها لن تتوقّف، وقد…

السّيناريو البديل عن الانتخاب: تطيير الجلسة تحضيراً لرئاسة ترامب!

في حين يترقّب الجميع جلسة التاسع من كانون الثاني، يحتلّ عنوانان أساسيّان المشهد السياسي: من هو الرئيس المقبل؟ وهل يحتاج موظّفو الفئة الأولى، كقائد الجيش…

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…

الثنائي وترشيح عون: سوياً ضده… أو معه

كعادته، وعلى طريقته، خلط وليد جنبلاط الأوراق عبر رمي قنبلة ترشيحه قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، ليحرّك مياه الرئاسة الراكدة. قبيل عودته إلى…