أوكرانيا: توحّد الغرب.. فهل يسقط بوتين؟

مدة القراءة 5 د

ليس اللافت في ما يريده الرئيس الروسي ولا في حجم ما يحرّكه من ماكينة عسكرية هائلة، بل في هذه الاستفاقة الغربية الجماعية. راهن فلاديمير بوتين على السوابق واعتبرها ثوابت آليّة تحقِّق له النصر دوماً. وللرجل الحقّ في الإيمان بذلك. سكتت كلّ العواصم الغربية عن فعلته في جورجيا عام 2008، وضمّه لجزيرة القرم عام 2014، وباركت ورعت تدخّله في سوريا عام 2015، فلماذا لا يخوض تجربة جديدة لم يجد لمثيلاتها السابقة رادعاً؟

ما حدث، وهنا الجديد، أنّ الغرب، وبسبب “كلمة سرّ” سنكشف ظروفها وحيثيّاتها في المستقبل، قرّر أن يُنهي التعدّد في صفوفه ويوقف حالة التشتّت في مواقفه ويعلّق ما يشبه توزيع الأدوار بين أقطابه ويقف داخل معسكر واحد ضدّ هذا “السوفياتي” المترجّل. والانقلاب دراماتيكي يشي أنّ هذا الغرب ذاهب بعيداً في دفع الكلفة في الاقتصاد والطاقة والأمن لمنع بوتين من نيل مبتغاه.

حين أراد جورج بوش أن يبرّر الحملة الأميركية لتحرير الكويت عام 1990، قال إنّها حرب الدفاع عن “أسلوب العيش لدينا”. وفي كلّ مرّة تحرّك هذا الغرب منذ الحرب العالمية الثانية مجتمعاً، كان دفاعاً عن “أسلوب العيش” الذي يستحقّ ضرب هذا الخصم أو القضاء على ذاك العدوّ أو تأمين مصادر الطاقة والمعادن والموادّ والأسواق الاستراتيجية.

استفاق الغرب بصعوبة من صدمة اكتشاف درجة ارتهانه للصين حين انفجرت “الجائحة” ببن يديه. أيقظ بوتين هذه الأيام أوروبا على حقيقة اعتماد مواردها من الطاقة بنسب مرتفعة طائشة على الوارد من روسيا. سبق لواشنطن في عهد دونالد ترامب أن حذّرت من ذلك، وراح الرجل ينهر أنجيلا ميركيل إلى درجة رفض مصافحتها بسبب “إثم” أنبوب “السيل الشمالي 2”.

أفرط الأوروبيون في الثقة بالمصدر الروسي للطاقة التي يقوم عليها “أسلوب العيش”. لم تعد روسيا عدوّاً استراتيجيّاً، أو على الأقلّ لا تشكّل خطراً وجودياً. كان بوتين وقبله بوريس يلتسين يمنّون النفس بأن تكون بلادهم يوماً ما عضواً في الناتو. في عهد بوتين، وقبل أن يُخرج مخالبه، باتت روسيا جزءاً من “مجموعة الدول السبع” فولدت الـ G8. تخلّص الغربيون من خطيئتهم وأقفلوا باب النادي على أهله الأصليّين.

ترامب المظلوم

لم يحبّ دونالد ترامب هذه المنظومة الغربية. ناكف الناتو والاتحاد الأوروبي، شاكس اليابان وكوريا الجنوبية غير معجب بكندا. بوتين أيضاً لا يحبّ كلّ هؤلاء. اقترب الرجلان من الهدف نفسه في الصلاة لتفكيك أوروبا والتصفيق للبريكست ودعم ورعاية أحزاب اليمين المتطرّف والتيارات الشعبويّة. صار ترامب صديقاً حميماً لبوتين (للمفارقة لكيم جونغ أون أيضاً في كوريا الشمالية). وفق هذا التحوّل الأميركي شيّد بوتين طموحاته التي لم يتوقّع أنّ جو بايدن سيكون كابحاً لها.

ليس اللافت في ما يريده الرئيس الروسي ولا في حجم ما يحرّكه من ماكينة عسكرية هائلة، بل في هذه الاستفاقة الغربية الجماعية

قبل وصوله إلى البيت الأبيض وعد بايدن بإعادة مصالحة أميركا مع الغرب. وعد برأب الصدع مع أوروبا وإعادة بثّ الإيمان بالناتو الذي قال عنه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إنّه في “حالة موت سريري”. التقى قادة الـG7 في كرونوول – بريطانيا خلال حزيران الماضي. غادر إثرها إلى بروكسل، فالتقى قادة الناتو والاتحاد الأوروبي. لم تنجح هذه القمم في إقناع العالم بعودة اللحمة إلى هذا الغرب. ظهرت تشقّقات لم تخُفِها البيانات الرسمية. بدا أنّ أوروبا وبسبب الترامبيّة باتت أقلّ ثقة بأميركا حتى لو أعادها بايدن إلى تقاليدها. راقب بوتين ذلك جيّداً.

مشكلة بوتين الكبرى ليست مع أوكرانيا، فهي مناسبة للنزال الكبير مع الغرب. يريد بوتين من خلال تحريم انضمام أوكرانيا إلى الناتو نيل سابقة تجعل من عضويّة بلدان البلطيق وبولندا ورومانيا وهنغاريا وغيرها حراماً. يريد أن يجعل عضويّة الناتو أو عدمها قراراً يصدر من موسكو. بالمقابل قرّرت الولايات المتحدة أن تقود هذا الغرب لتُسقط طموحات بوتين: “الغزو ممنوع”. وإذا اقتُرف فلن يكون هناك مجابهة عسكرية غربية مباشرة ضدّ الغزاة، بل سيُردّ على الإثم بعقوبات “مدمّرة”.

ركّزت الولايات المتحدة كلّ سياستها الخارجية على مواجهة الصين. لم تعتبر مؤسسات واشنطن أنّ روسيا عدوّ، لا بل إنّ بعض مدارس التفكير الأميركية تدعو إلى جعلها شريكاً وحليفاً في المعركة ضدّ الصين. غير أنّ أميركا، سواء حكمها في البيت الأبيض رئيس ديمقراطي أو جمهوري، لن تسمح بخسارة معركة ضدّ روسيا التي يحتلّ اقتصادها المرتبة الـ 11 في العالم، فيما تحتلّ ولاية كاليفورنيا المرتبة الخامسة. وعلى ذلك فإنّ في الحملة الأميركية في أوكرانيا عبق الحملة الكبرى ضدّ الصين.

يهدّد الغرب روسيا بالعقوبات الاقتصادية. يدرك بوتين أنّ قوة بلاده العسكرية مهما كبر جبروتها ما زالت دون تلك الأميركية حتى لا نقول الغربية. يتذكّر أيضاً أنّ الاتحاد السوفياتي حين انهار كان قوة نووية جبّارة كبرى. يعرف أيضاً أنّ الاقتصاد هو ما أطاح بالإمبراطورية السوفياتية، وأنّ قواه الاقتصادية لا يمكنها، حتى لو أنجدته الصين جدلاً (وهذا ليس مضموناً)، أن تصمد أمام ما تَعِدُ به واشنطن والغرب من عقوبات.

إقرأ أيضاً: الانقلاب الروسي في أوكرانيا.. درس للصين في تايوان..

لافت جدّاً ما كتبه البروفيسور أندري أوكارا، وهو عالم سياسي روسي محاضر في جامعة سانت بطرسبورغ الحكومية. يرى الرجل أنّ “النزاع العسكري الواسع النطاق مع أوكرانيا يشكّل تهديداً مباشراً لروسيا نفسها قبل كلّ شيء، فهو قادر على محو النظام السياسي الروسي الحالي، وإعادة تشكيل الدولة بكاملها بطريقة جذرية وغير متوقّعة”.

يتحدّث الرجل من روسيا ويعرف أنّ بوتين سيقرأ جيّداً هذا الغرب ولن ينجرّ إلى صدام قد يطرح أسئلة لدى مؤسسات بلاده، الجيش والكنيسة والاقتصاد: ألا يزال بوتين رئيساً جيّداً لروسيا؟

* كاتب لبناني مقيم في لندن

مواضيع ذات صلة

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…

لبنان بين ولاية الفقيه وولاية النّبيه

فضّل “الحزب” وحدة ساحات “ولاية الفقيه”، على وحدانية الشراكة اللبنانية الوطنية. ذهب إلى غزة عبر إسناد متهوّر، فأعلن الكيان الإسرائيلي ضدّه حرباً كاملة الأوصاف. إنّه…

الأكراد في الشّرق الأوسط: “المايسترو” بهشلي برعاية إردوغان (1/2)

قال “أبو القومية التركية” المفكّر ضياء غوك ألب في عام 1920 إنّ التركي الذي لا يحبّ الأكراد ليس تركيّاً، وإنّ الكردي الذي لا يحبّ الأتراك…