أوكرانيا- لبنان: “الشعب الواحد في بلدين”!

مدة القراءة 5 د

لم تعترف دمشق، لا سيّما في ظلّ نظام البعث بنسخته الأسديّة، بلبنان دولة مستقلّة كاملة السيادة. ظلّت السرديّة العقائدية تتحدّث عن “الحدود المصطنعة” وعن سلخ “القطر” اللبناني جبلاً وأقضيةً أربعةً عن سوريا. ولئن فرض الأمر الواقع الدولي نفسه فبات للبنان كيان وحضور وحكاية خاصّة، فإنّ دمشق لم تقبل ترسيم الحدود بشكل نهائي، ولم تعترف بلبنانيّة مزارع شبعا، ولم تتبادل مع بيروت التمثيل الدبلوماسي إلا على مضض. على الرغم من أنّ ما يملكه نظامها من حلفاء وأتباع داخل الصف السياسي اللبناني يبقى ضامناً أن لا يجري تغريد في بيروت يتمرّد على ذلك في دمشق.

لأوكرانيا قصّة مع روسيا مماثلة لتلك التي سطّر النظام السوري نصوصها مع لبنان. وتجاوزاً لسرد تاريخي حول علاقة موسكو مع كييف، بين ما قبل وما بعد اندثار الحرب الباردة، فإنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين طوّر خطابه بشأن أوكرانيا من اعتبار أنّها “ليست دولة” (وفق ما نُقل عنه في لقاء مع نظيره الأميركي جورج بوش الابن عام 2008) إلى فذلكة يتذكّرها اللبنانيون جيّداً حين أفتى أنّ الروس والأوكرانيين “شعب واحد في بلدين”، ناهلاً من بعض ما نصّه المفكّر الروسي ألكسندر دوغين في معرض تبشيره بـ”مجد الأمّة الروسية”.

قبل أن يندفع تسونامي 14 آذار عام 2005 وما تلا ذلك اليوم، كان العالم قد عرف وراقب باهتمام ما أُطلق عليه اسم “الثورة البرتقالية” في أوكرانيا تشرين الثاني 2004 – كانون الأول 2005

تشابه الاستبداد

بوتين كما الأسد الأب، مثل أيّ واجهة استبدادية، يكتبان التاريخ وفق تلفيق عرقي وربّما بيولوجي يُسخَّرُ خدمةً لرغبات ونزوات “القائد” الملهم. بشّر حافظ الأسد اللبنانيين والسوريين أنّهم “شعب واحد في بلدين”. لم يقل إنّ السوريين والعراقيين مثلاً هم شعب واحد في بلدين على الرغم من أنّ “بعثاً” كان في زمانه يحكم دمشق وبغداد. ولم يقل ذلك بالنسبة للأردنيين مثلاً. وهنا تبدو المختبرات الجينية انتقائية وفق مزاج القيادة القطرية والقومية في دمشق وأجندة القيصر في الكرملين.

أطلّ أدولف هتلر على العالم متطوّعاً بأن يكون راعياً وحامياً للناطقين بالألمانية في العالم. وفي أيّ غزو قامت به ألمانيا النازية لبولندا أو النمسا أو تشيكوسلوفاكيا أو أيّ حيّ معتم في أيّ بلد آخر، كان حافزُ ذلك الغزو “الدفاعَ عن الشعوب الجرمانية”. قبل أن ترتقي الفتوى إلى واجب “الذود عن الآريّة والآريّين”. ولم تعدم موسكو ودمشق الحجّة في إطلالتهما الثقيلة على المحيط، فنهلت الأولى من الشيوعية الأممية في روسيا، والثانية من القومية العربية، وفق رواية الحزب القائد والحركة التصحيحية المجيدة.

و”الشعب” في عُرف تلك الفتاوي هو رعيّة تُدجّنها المقولة لتشريع التحكّم بها. والفارق بينهما أنّ دمشق فقدت وصايتها على “شعبها في لبنان” منذ أن دفعتها ضغوط اللبنانيين والضغوط الخارجية إلى سحب قواتها تاركةً خلايا نائمة وجزراً هائمة سيُعاد تأهيلها حين يتمّ تعويم نظام دمشق. بالمقابل فقدت موسكو وصايتها على “الرفاق” في أوكرانيا بعدما غادرت الحقبة السوفياتية العالم، وانهارت تلك الوصاية على نحو مقلق بعدما اقتلعت ثورةٌ وانتخاباتٌ رجال موسكو من قمرة قيادة الحكم في كييف.

منطقة دونباس شرق أوكرانيا يسكنها ناطقون بالروسيّة تعتبرهم موسكو جزءاً من الأمّة الروسيّة وامتداداً لها. وفي جزيرة القرم، التي ضمّتها روسيا عنوة عام 2014، تتار ناطقون بالتركيّة تنظر إليهم أنقرة كما إلى كلّ الشعوب الناطقة بالتركيّة في العالم (آسيا الوسطى والإيغور في الصين مثالاً) بصفتهم جزءاً من مشهد تركيا الكبير. وداخل هذه الفسيفساء الإثنولوجية تتسلّل “السماجة” الأيديولوجية التي تعيد توزيع الحقوق في الحكم والتحكّم وفق تشريح فيزيولوجي يتيح “البلطجة” على حساب القوانين والمواثيق وأعراف العالم الحديث.

 لم يكن الغاضبون من حدث اغتيال الرئيس رفيق الحريري في بيروت مكترثين لحدث يجري بعيداً عن بلادهم وله سياقات سياسية وتاريخية مختلفة. غير أنّ الأمين العامّ لحزب الله السيّد حسن نصر الله خرج في 8 آذار الشهير منذراً أنّ “لبنان ليس أوكرانيا”

والحال أنّ النزوع الهويّاتي القديم-الجديد باتجاه القومي والديني والمذهبي والعشائري والقبلي يجرُّ ماء إلى طاحونة الباحثين عن السطوة من خلال الدم والنسل والسلالة (وفق ما يروَّج في اليمن). ولئن صدّعت الحرب السورية قماشة الشعب الواحد في سوريا، وأفتى الأسد الابن بنظريّة “الشعب المنسجم”، فإنّه سيكون عسيراً أن تُسوّق لدى اللبنانيين فكرة أنّهم استمرار وتمدّد للشعب “الجديد” المكتشف في سوريا.

قبل أن يندفع تسونامي 14 آذار عام 2005 وما تلا ذلك اليوم، كان العالم قد عرف وراقب باهتمام ما أُطلق عليه اسم “الثورة البرتقالية” في أوكرانيا (تشرين الثاني 2004 – كانون الأول 2005). ربّما لم يكن الغاضبون من حدث اغتيال الرئيس رفيق الحريري في بيروت مكترثين لحدث يجري بعيداً عن بلادهم وله سياقات سياسية وتاريخية مختلفة. غير أنّ الأمين العامّ لحزب الله السيّد حسن نصر الله خرج في 8 آذار الشهير منذراً أنّ “لبنان ليس أوكرانيا”. 

لم يفهم الناس سرّ تلك المقارنة وتوقيتها. وهي لم تكن في الوارد والبال. غير أنّ الرجل كان قلقاً من تلك “اللوثة” ومتحوِّلاتها التي قد تمنع “الشعب الواحد” في سوريا ولبنان من تحقُّق مشروع يحيله مع الشعب في إيران شعباً واحداً يرعاه ويحكمه ويتحكّم بمساراته ومصائره وليّ فقيه في طهران. 

إقرأ أيضاً: جريمة رفيق الحريري

ولئن يعيش لبنان حقبة الفتك الممنهج، فإنّ رواج الحديث عن الفدرالية وتشظّي رؤية اللبنانيين حول فكرة بلدهم، تطرح سؤالاً موجعاً عمّا إذا كان الشعب ما زال واحداً في لبنان وليس في البلدين، أم تسرّبت عدوى من الجوار تروِّج لـ”شعوب منسجمة”، على منوال المتوخّى في “سوريا المفيدة”؟

*كاتب لبناني مقيم في لندن

مواضيع ذات صلة

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…

لبنان بين ولاية الفقيه وولاية النّبيه

فضّل “الحزب” وحدة ساحات “ولاية الفقيه”، على وحدانية الشراكة اللبنانية الوطنية. ذهب إلى غزة عبر إسناد متهوّر، فأعلن الكيان الإسرائيلي ضدّه حرباً كاملة الأوصاف. إنّه…

الأكراد في الشّرق الأوسط: “المايسترو” بهشلي برعاية إردوغان (1/2)

قال “أبو القومية التركية” المفكّر ضياء غوك ألب في عام 1920 إنّ التركي الذي لا يحبّ الأكراد ليس تركيّاً، وإنّ الكردي الذي لا يحبّ الأتراك…